ثقافة

بعد تسلمّه جائزة الدولة التقديرية: د.نذير العظمة: القصيدة هي القلعة الأخيرة لحرية المبدع.. والإبداع من أجل الإبداع أمر مرفوض

بهذه الكلمات أراد الأديب د.نذير العظمة أن يبدأ حواره مع “البعث” على هامش حفل تسلّمه جائزة الدولة التقديرية، مبيناً أن وطنه لم يُخيّب ظنه وهو الذي لم يبحث فيه يوماً عن مكسب أو مصلحة شخصية، وهو إن أراد ذات مرة أن يتوقف ليسأل ماذا أعطاه الوطن سيسأل نفسه أولاً ماذا قدم هو لهذا الوطن الذي حضنه جسداً وروحاً وفكراً وإبداعاً، ولذلك يؤكد صاحب ديوان “الطريق إلى دمشق” أن دمشق بالنسبة له هي المثال وهي بوابة القرار القوميّ والحلم من أجل الوحدة الوطنية والقومية، وقرارها يؤثر على المنطقة ككل، مبيناً أنها اليوم ورغم كل ما يحدث فيها ما تزال قلعة من أجل تثبيت الهوية القومية، ولولا إيمانه بذلك لما بقي فيها –وخياراته كثيرة- لتكون خياره الوحيد، مذكِّراً الجميع بأنه غادرها مضطراً، ولأن حبّ الوطن قتّال وبعد غياب دام 35 سنة عاد إليها منتصراً وهو الذي دفع أثماناً باهظة في حياته، إلا أنه -كما يقول- لم يُهزَم يوماً وكان منتصراً لأنه دافع عن تجربة الهوية الحضارية، وهذا ما يفسر برأيه تعدد الأجناس الأدبية التي لجأ إليها وقد خبرها خدمةً لهذه التجربة، ليؤكد أنه وإن تعددت خياراته إلا أن شخصيته في الأجناس الأدبية كلها كانت لا تجافي الوحدة السيكولوجية، فكان هو نفسه وهدفه واحد في المسرحية والقصيدة والبحث العلميّ، لذلك يشبِّه د.العظمة نفسه ببطل قصيدته “جسر الموتى” حيث البطل يموت مرتين، مرة عن ذاته ومرة أخرى عن ذات المجتمع حتى تبزغ الولادة الجديدة.
ويؤمن د.العظمة بأهمية الدور الذي يقوم به المبدع في حياتنا وبالتأثير الكبير الذي يحدثه، وهذا برأيه لا يتحقق إلا إذا كان إبداعه صادراً عن تجربة ذات ثقافية مقتنعة بوجهة النظر التي يستنتجها من التطورات الحادثة على الأرض لأن وجهات النظر الجاهزة برأيه لا يمكن أن تحرك الروح العربية أو السورية المعاصرة، لذلك يرى أنه لا بدّ من الإيمان بوحدة شخصيتنا ووجودنا وتاريخنا وهويتنا والوحدة الوطنية التي تقاتل من أجل أن تصون مصيرنا وحياتنا في المستقبل، مبيّناً أنه لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن نطلب من المبدع أن يكتب عن موضوع من الموضوعات لأنه يجب أن يقدم إبداعاً ناتجاً عن تجربةِ ذاتٍ مقتنعة بما تقوم به على الأرض، متصلة لا بالروح الشخصية فحسب إنما تعبِّر عن الشخصية الروحية المشتركة، شخصية الإنسان الذي يُهدَر اليوم مصيره ومصالحه العليا كشعب ودولة وهوية.
ويرفض د.العظمة أن يتهم المثقفون السوريون بالتقاعس في ترسيخ ملامح الهوية السورية، مبيناً أنهم لم يتقاعسوا وإن بدا للبعض ذلك، وأن أي تقصير في هذا الاتجاه إنما سببه تكاتف القوى الامبريالية ضد الهوية الوطنية وتمزيقها إلى كانتونات مذهبية وطائفية وعرقية للسيطرة على سورية، ولأنها بوابة القرار القوميّ تاريخياً نشأت مخاوف أوربا والاستعمار منها ومن تأثير القرار القوميّ الذي تتخذه، خاصة وأن السوريين لا ينامون على ضيم ولا يتخذون قرارات توافق على تمزيق شخصيتهم وأرضهم، وهذا ما جعلهم يرفضون اتفاقية سايكس بيكو ووعد بلفور وغيرهما.

الشعر أولاً وأخيراً
وعن سبب انحيازه للشعر وهو الذي بدأ من خلال المسرح الذي قدم له نصوصاً عديدة مهمة يوضح د.العظمة أن المسرح لا يحكي عن الذات الأنا وإنما عن الذات المجتمع، والمسرحيّ لا يصور شخصيته كما يفعل الشاعر في قصائده الغنية، لذلك التقت ذاته في الموضوعيّ فيه، والموضوعيّ في الذاتيّ، لكن شيئاً فشيئاً انتقلتْ من المسرح إلى القصيدة المفردة بحثاً عن الشخصية الواحدة ووجدتْ أن السوريين يتمتعون تاريخياً بوحدة الشخصية، والعطب بدأ منذ سايكس بيكو ووعد بلفور ومحاولة فرض هوية نمطية مصلحية ليس للمنطقة وإنما لحركة الاستعمار ورغبتها في أن تسود المنطقة والعائدة اليوم إلى المنطقة بنظرية الكانتونات وإلغاء الشخصية الوطنية، مؤكداً أنه لجأ إلى الشعر الذي حضن أفكاره ورؤاه وأحلامه وتطلعاته ونضاله لأن القصيدة برأيه هي القلعة الأخيرة للتعبير عن أصالة تجربة الذات في إطار المجتمع ولإيمانه بأنها القلعة الأخيرة لحرية المبدع لكي يقول تجربته متفاعلاً مع الآخر-المتلقي المتفاعل معه من خلال العلاقة المباشرة بينهما عبر المنبر.
ويرى العظمة -وهو عكس أغلب مبدعينا الذين يبدؤون بالشعر وسرعان ما يتخلون عنه باتجاه أجناس أدبية أخرى- أن البعض تخلّى عن الشعر لأن تجربته فيه كانت إما غير صادقة أو أنها تجريب لا تجربة الذات المتحولة في سياق اجتماعي تاريخيّ معيّن، رافضاً أن يكون  الشعر من أجل الشعر، والإبداع من أجل الإبداع لأن الإبداع –برأيه- يجب أن يكون من أجل صيانة الشخصية الإنسانية، شخصية الإنسان-المجتمع، مشيراً -وهو المتخصص في الأدب المقارَن والدارس لكل الحركات الشعرية “السريالية والدادائية والرومانسية والكلاسيكية”- أنه مع الإنسان المبدع، لكن الإنسان المبدع في أوربا مثلاً لا يتعرض للتجربة التي نتعرض لها نحن، وهو يدافع عن وجوده في إطار الحضارة الغربية، أما نحن فلا ندافع عن وجودنا كأشخاص بل كأمة وهوية لأن هويتنا إذا مُسِحَت فكيف نخوض معركتنا ولأجل ماذا؟ من أجل ذات فردية متقوقعة في الداخل، أم من أجل ذاتنا الحضارية المناضلة ضدّ الغازي الذي يحاول أن يمزّق إنساننا وتاريخنا وحضارتنا؟
كما لا يتفق العظمة مع مَن يشكك بقدرة الشعر على الدفاع عن هويتنا وشخصيتنا لقناعته بأن القصيدة القائمة على التجربة الإنسانية سلاح مهم لأنها مازالت وسيلة مباشرة ما بين المبدع والمتلقي، وهذا لم يتحقق في الفنون الأخرى، ومن هنا تكمن خطورة القصيدة وبعض الشعراء، والدليل أن بعضهم دفعوا أثماناً باهظة لمجرّد أنهم وقفوا على منبر وقالوا قصيدة، والأمثلة كثيرة: نذير العظمة وبدر شاكر السياب، وغيرهما.
ولأن الشعر يستلزم روحاً دفاقة قد تتأثر بفعل الوقت والعمر يبيّن د.العظمة -وهو الذي تجاوز الـ 82 من العمر- أن هذه الروح ما زالت دفّاقة تغذّي شعره، كيف لا ومازال يتغذى بخبز عشتار الوطن وعشتار سيد البروق التي يراها في كل نساء بلده.

أزمتنا ليست جديدة
وحين سؤاله عن انعكاس الأزمة على إبداعه سارع للتأكيد على أن أزمتنا ليست جديدة في مضمونها وإن تغيرت أشكالها، وما نتاجه إلا انعكاساً لها قديماً وحديثاً، وهو في مسرحيته “أورك تبحث عن جلجامش” إنما يتحدث عن أورك المدينة العربية وعن جلجامش البطل المعاصر الذي يحمي أوروك، وهي بذلك أصبحت ملحمة حديثة في إطار الواقع، ليصبح كذلك سيزيف الأندلسيّ في مسرحيته التي أخرجها الفنان أسعد فضة البطل السوريّ المعاصر الذي يدافع عن المدينة العربية التي استُبيحت من قِبل قوى مختلفة إقليمية ودولية ومصلحية ليزاوج سيزيف فيها بين التاريخ والأسطورة، وليلغي العبث الوجوديّ فيُنتِج بطلاً سيزيفياً مناضلاً ومقاتلاً يوزع الماء في حياة البور فيلغي بذلك د.العظمة نظرية الأدب العابث “الأدب من أجل الأدب” ليكون أدباً يصدر عن تجربة إنسان مناضل في الميدان، منوهاً إلى أن هذه المسرحية أُخرِجت وقُدِّمت في دول عربية متعددة عبر وزارات الثقافة التي قدَّرت العمل الإبداعيّ الذي ما كُتِبَ في غور تاريخيّ زمنيّ شكليّ وإنما في الزمن الديناميّ الذي حوّل الأسطورة إلى تاريخ، والتاريخ إلى أسطورة.
وعن رأيه بمن يتناول الأزمة السورية في إبداعه بشكل مباشر يوضح العظمة أن المباشرة في الحديث عن الأزمة قد تبدو مقبولة في الفكر السياسيّ فقط أما في الإبداع فيجب مخاطبة الآخر عبر تجربة الذات للمبدع، فالتأثير هنا يكون أقوى والقناعة أعمق والاستقبال أكثر فرحاً، ولذلك نحن نحتاج إلى الفنون والأدب حتى في المجال التربويّ لأنها تلعب دوراً تربوياً لا نجده يتيسر في الطرق المباشرة التي يعتمدها التفكير السياسيّ.

عودة عشتار من العالم الأسفل
وعن جديده يشير العظمة إلى صدور كتابين له مؤخراً، الأول بعنوان “عودة عشتار من العالم الأسفل” موضحاً أن عشتار هنا رمز النضال الحضاريّ ضدّ الشرّ والتنّين، وهي تساعد تموز ليصارع التنّين.. إن عشتار في كتابه ليست رمزاً للرومانسية والحبّ فقط بل هي رمز للحبّ حين تساعد الأبطال، وللحرب حين تخوض معركة ضدّ تنّين، والشر القادم من البحر والبرّ، وبالتالي هي رمز للنضال الحضاريّ ضد الشرّ.. منوهاً إلى أن عشتار موجودة في التراث البابليّ الأكادي وبلاد ما بين النهرين وسورية، وكذلك في الساحل عند الفينيقيين باسم عشتروت، وموجودة في الأدب الكنعانيّ في سورية (اللاذقية) باسم عناة التي تساعد بعل رمز الخصوبة والقوة لصد العدوان الآتي من البحر، مبيناً أن هذا البعد الأسطوريّ يصور حاضرنا الآن، فالأسطورة في كتاب العظمة كما يشير ترمز إلى نضال السوريين تاريخياً في سبيل صيانة الهوية القومية وإشاعة الخير في كل مكان وصدّ العدوان بكل أشكاله، ولهذا يستعرض في كتابه الأسطورة ليس فقط في الميثيولوجيا والتاريخ القديم وإنما في المسرحية والرواية والقصة والأسطورة في العصر الحديث، مؤكداً أن هذه الأسطورة مازالت حية وموجودة في آدابنا الحديثة بتكيفات تصون الهوية الحضارية القومية التي نتحد حولها اليوم من أجل الدفاع عن وجودنا ومصيرنا وهويتنا، مشيراً إلى أن أسطورة عشتار في هذا الكتاب هي في سياق الآن وهي ليست الجسد والشهوة بل النضال والقوة، وأن هذا الكتاب استغرق إنجازه نحو 7 سنوات وقد صدر باللغتين العربية والإنكليزية، وهو عبارة عن دراسة نشرت بعض أبحاثها في وقت من الأوقات في المجلات الاستشراقية الأميركية.
أما كتابه الثاني “أدب المقاومة بين الأسطورة والتاريخ” فيعود العظمة فيه للحديث عن المقاومة وهي التي لم تغب يوماً عن قريحته أو قلمه، مستفيداً من تجربته مع المقاومة اللبنانية التي عمل معها فترة من الزمن فكان ديوانه “سيدة البحر” والمقصود هنا بيروت التي كانت رمزاً للمقاومة ليبيّن فيه كيف يخرج التاريخ من مستوى التاريخ إلى الأسطورة، وكيف تنزل الأسطورة أحياناً إلى مستوى التاريخ، أي كيف تصبح المقاومة أسطورة، وكيف تصير الأسطورة تاريخاً، مؤكداً أن هذا وجودنا ومعنى وجودنا الآن ومعنى المعركة التي نقودها اليوم ثقافياً وسياسياً واقتصادياً وحضارياً، ومن هنا يرى أن هذين الكتابين ينطلقان من رحم الأحداث الحالية التي تشهدها سورية، يتصل بنبضنا بالواقع وقد صاغهما بشكل منهجيّ ومعرفيّ وثقافيّ .
ويشير د.العظمة كذلك إلى أن في جعبته اليوم مجموعة شعرية قيد التحضير بعنوان “الشهادة والسيف” وهي تضمّ مجموعة قصائد عن الشهداء الأصدقاء الذين عرفهم واستشهدوا في سبيل سورية وعن شهداء لم يعرفهم وقدموا أرواحهم في سبيل بلادهم استنفروا وجدانه الشعريّ فكتب عنهم.
وختم د.العظمة حواره بتوجيه كلمة للمبدعين الشباب قائلاً فيها:
“آمنوا بهويتكم وانتمائكم وناضلوا من أجل ذلك وأنتِجوا عن تجربة واقعية في الميدان حيث لا تكفي التجربة التأملية.. تورطوا بحبّ الوطن والهوية.. ناضلوا من أجلها لأنه بدونها ليس لنا وجود” داعياً الجميع في سورية إلى التخلّي عن القناعات الجزئية حتى لا تكون وسيلة لتمزيق الشخصية الوطنية، مؤكداً أن السوريين سبق أن توحدوا وقاتلوا العدو، وهذا ما سيفعلونه مجدداً.

أمينة عباس