ثقافة

في مديح شاعر مقاوم

ترى هل التأم شطرا البرتقالة الفلسطينية؟ .
هي ضرورة أخرى أن يرحل الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم عشية ذكرى غياب توءمه الفكري والكفاحي محمود درويش، وبرحيله لم تصمت قصائده المجلجلة والتي كان الاسم والهوية والفعل للشعر الفلسطيني المقاوم وبنائه لصرح ذاكرة وطنية وقومية بامتياز.  في ذلك المسار المديد والمجتهد الذي سار به سميح القاسم شاعراً وروائياً ومؤرخاً لليوميات الفلسطينية والعربية، ثمة تجربة تركت أسئلتها الأخرى لزمن قادم، زمن كانت به قصائد القاسم مديحاً لفلسطين المعاناة والمقاومة، زمن لا مسافة له بين القصيدة وفلسطين، وبين القصيدة وسميح القاسم، فصوته هو الجزء العضوي من الصوت الجماعي الذي تمسك بالجذور لتحصين الدفاعات كما قال محمود درويش ذلك في وقت مضى ليبث بالشعر روح المقاومة الضارية وهي تعبُر أمداء اللغة والخطاب والمفردات، لتصوغ إيقاعاً فريداً لتجليات الشعب الفلسطيني ولحظاته الفارقة ومحطاته المتواترة، وهكذا جاء سميح القاسم كمثقف وطني يشتق دوره ورسالته مؤمناً بفاعلية الكلمة وحيويتها وطلاقتها في وجدان الناس وفي ذاكرتهم، ومرسخاً ماهية الفلسطيني والعربي في الصمود والمقاومة، وهو يستأنف نسقاً شعرياً وطنياً وكفاحياً ليُتمم ما ابتدأه من سبقه من أجيال فلسطين ومقاوميها الأدباء والشعراء منهم على وجه الخصوص، وبهذا المعنى كان سميح القاسم مركباً بديعاً ما بين الكلمة والسياق، الفكرة والمعنى والدلالة المتحركة للشعر في مرايا التاريخ، شعراً داخل الشعر وفكراً أكثر خصوبة في القول الشعري المباشر والرهيف المحايث لكثافة الروح الفلسطينية وطلاقتها ليصوغ نشيدها ونشيد خلاصها: «تقدموا تقدموا/ فكل سماء فوقكم جهنم/ وكل أرض تحتكم جهنم/وهددوا وشردوا/ ويتموا وهدموا/ لن تكسروا أعماقنا/ لن تهزموا أشواقنا/ نحن قضاء مبرم».
تتلامح في قصائده المستمرة الحدث درامية لغته التي تنفتح على جمالية المقاومة، «يكتب ما يفعله، ويفعل ما يريد أن يكتبه»، وهو الذي يتأمل الوقائع الفلسطينية وينهض في مسارب يومياتها ليعيد خلقها، في ذاكرة وطنية تحتفي بالملحمة وبأفعال التاريخ وبرعشة المأساة وبالألم الجليل، ومن الشجن إلى التفاؤل إلى الأمل الفادح ليُدافع عن وطن مغتصب يستدعيه بلغته الطليقة الواضحة المرايا القوية الجرس، ومن حرير اللغة يخيط لها ما تشاء الرؤيا وما تشاء القصيدة في راهنها الوطني والقومي.
في إستراتيجيته الشعرية وقف القاسم في تقاطعات شعره مع الأصوات لتتعدد أوزان قصائده وتتصادى أصواته في نسيج دال على حركة الشعر الفلسطيني والتي لا تنفصل عن حركة الشعر العربي في عضوية متماسكة أثيرة تنفتح على الوطني والقومي والإنساني وتضع الشعر ومكابداته أبعد من إلهام المخيلة إلى إلهام الواقع بالذات، وما يجترحه الشاعر في قوله الشعري المضبوط المسافة والإيقاع والرؤية من صيغ تعبيرية تتكامل أجزاءها لتحيلنا لوحدة عضوية نهضت عليها قصائده معللة بثقافته العربية العالية تحت الاحتلال وفي مواجهة الاحتلال، ليصبح قلق الشاعر فاعلاً لا منفعلاً وصانع حدث لا يكتفي بالعبور منه فقط إلا ليؤسس كما من سبقه ذاكرةً خصبة ليوميات المقاومة الفلسطينية والعربية، ذات صيف صدح الشاعر في قلب دمشق قصيدته «تقدموا» ليلغي المسافة إلى المتلقي والقارئ ويبث جمالية الشعر المقاوم في ثلاثية باهرة الشعر والشاعر والوطن، وليصبح الضمير المتكلم باسم القضية وحارس وسادن نارها المقدسة.
وبكثافة وجدانه في رسالة كتبها الراحل محمود درويش إلى سميح القاسم قال له في قصيدته «أسميك نرجسة حول قلبي»، وعن مشهد لا يكرر إلا حضور الغياب ما قيمة أن يتبادل شاعران الرسائل، ليقول سميح القاسم مجيباً: خذ عني القصيدة، هي التكثيف النهائي والكامل لألمنا الفلسطيني… هاأنذا أرتاح قليلاً حينما أكتب إليك، فإنني أكتب إلى نفسي… ويا لها من مناورة رائعة هذه التي نتعزى بها في زمن شح فيه العزاء.
هو السفر المضاد إلى الموت ذلك ما نستخلصه من مسيرة شاعر وفي حضوره في وعينا الوطني الفلسطيني والعربي والعالمي، وفي قصيدة جماهيرية مازالت تؤرخ لليوميات الأخرى سيظل الشاعر بقوامه الفكري والجمالي يغذي الدرس إلى سفر الرؤية وفاعلية الكلمة-الضوء في العتمة السادرة وفي ظلام احتلال لن يدوم طويلاً.
هو قصيدة تليق بفلسطين هكذا كثافة سميح القاسم مقاوماً وإنساناً ظل في الأرض التي أحبها، كبرتقال الجليل الخصب الدماء، «كالرامة» التي ظلت جذوره وعبوره لمرافئ الضوء وثنائية الأرض والمقاومة والتحليق عالياً بالقصائد القومية مدافعةً عن الحق والحرية في درسها الوطني والأخلاقي بامتياز.
أحمد علي هلال