ثقافة

دلالات في ثقافة جديدة: إلهام الخيال ومكابدة الصنعة أحمد علي هلال

في نصوص الواقع والتي تتواتر بتواتر الأحداث وتنام الشخوص وكثافة الأفكار، ثمة الكثير ما يشي بأن ثقافة ما في طريقها للتحول إن لم تكن فعلاً تراكمياً سيسفر نوعياً عما يمكن تسميته بالمختلف الجميل.
والفارق في النصوص المتخيلة أن الواقع يظل فيها حيّاً ومتحركاً وذا دلالة مفتوحة على أقصى ما يستطيعه التخييل. وأقصى ما يستطيعه النص الذي نقول مجازاً عنه إنه مركب من الواقع والخيال بآن أن يمتعنا بالطريقة وبمنحنا القدرة على الرؤية من الزوايا البعيدة، لذلك فكثيراً ما تثقل النصوص بالواقع لكأنها تعيد إنتاجه وبعضها يتزّيا بالخيال ليس هروباً من استحقاقات واقع بعينه وإنما هو غرض اللغة على الدوام لأن تكون ثرية وتحرض بالمعرفة الحدس والتأمل والتداعي، جملة عوامل نفسية تقف وراء ظاهرة النص الثري، ولكن ما الذي يجعل النصوص كمعادل جمالي ورؤيوي للواقع دون الوقوع في استلاب متعالياته؟.
والمعضلة في الخيال كيف يأتي في نسيج النصوص إن لم يكن هو نسيجها، لا أن يأتي لغاية تزيينية تحيل إلى ترف اللغة وإنشاء الكلام، فالخيال بمكونه العضوي أصبح أكثر حاجة اليوم ليُحاكي حرية النصوص، تلك الحرية الأثيرة والتي غالباً ما كانت في صلب استدعاء النقاد لها ليرونها كائناً جمالياً متحققاً وليس منفصلاً بالضرورة عن الواقع إلا بطريقة الاستثمار والتوظيف وجملة النُزوعات النصية اللاحقة.
فخارج الدرس النقدي البلاغي لابد من الاتكاء على أمثولات الواقع كما أمثولات الخيال ليس لضرورة تركيبية هنا بقدر ما هي الإحالة الضرورية لرؤية الأدب في مساراته الجديدة أو المتجددة. فالخيال هو الابن الشرعي للإلهام، وكل فعاليات الخيال في تخييلها الضروري مازالت تشكل غواية للأدب، وغواية للكلمات لتبني عالماً آخر موازٍ ربما «يعوض» ما خسره الواقع في متعالياته النصية. فكثيراً من النصوص في أجناس الأدب المختلفة مازالت هي الأخرى أيضاً تكابد هواجس الصنعة الأدبية وقيود الشكل والذي يبدو امتحاناً للموضوع بصرف النظر عن طبيعة هذا الموضوع، ومعلوم أن صناعة النص كل لا يتجزأ إذ إن الشكل هو مضمون بهذا المعنى، ولكن لنا أن نتساءل في هذا السياق كيف يبني النص أمثولاته بعيداً عما يقال إنه مثقل بالواقع –الموضوع- وأنه يجترح شكلاً جديداً أي يذهب في مغامرة فنية محسوبة أو غير محسوبة؟.
وعلى الأرجح إن معايرة النسبة الإبداعية والتي نشتق منها هنا تعبير «القيمة المضافة» ستبقى هي الهاجس الأكبر لمن يبدعون لينجو النص من صنعة لا ضرورة ولا لزوم لها، لأنها تجعل من النص في الأغلب الأعم مجرد قالب لغوي يكتفي بغواية اللغة ولا يعللها معرفياً على الأقل، ما يعني أن نسبة الواقع إلى الخيال فيما نمر به من أزمات تساورنا لنعكسها في مدوناتنا الكتابية، يجب أن يكون معيارها الرؤيا فهي التي تضيف للنصوص بهاء محتملاً وخصوصية منشودة، ولهذه الأسباب فإن بقاء نصوص بعينها في ذاكرة التلقي لن يكتب له العمر الطويل، لأنها لم تضف شيئاً بل مازال الواقع بمحكياته أقدر على اشتقاق الرواية الأصلية بطزاجتها واكتمال حدوسها، وبالسعة الإبداعية المتحققة التي تُنجز لحظة غير عابرة في تاريخ الإبداع وفي معنى الإضافة إلى صيرورة المبدع.
هذا يعني أيضاً أن استدعاء الخيال أو ما نراه بالتخييل الضروري يجب أن يقاسم الواقع حصته ليعطي الدلالة المنشودة والتي تتخفف منها كثير من النصوص التي يجهد كتابها في توسل الإلهام أو الاتكاء على محكيات الواقع دون تحريك أو استدعاء لمنظومات إشارية بعينها، وتلك جدلية مازال الأدب والنقد مشغولين بها بحثاً عن القيمة والمعيار وأكثر من ذلك بحثاً عن خصوصية المبدع وخصوبة نصه والتي نجد اليوم أن الحاجة إليها ستكون مبررة خارج مسوغات التدوين ومجرد التقاط اللحظة، بل ما يسائل ثقافة ومعرفة تحرر المعنى في القراءة والكتابة والإبداع، ودقة القول ما بين الجمال والاختلاف وما بينهما من تكامل منشود يرقى بأداء وكفاءة النصوص الإبداعية الجديدة، في الحقول والأجناس المختلفة.