ثقافة

الشاهد الذي لايموت سلوى عباس

ما بين الأمس واليوم، مر زمن من حزن وسواد.. زمن متشح بالقتل والدمار.. وللسنة الثامنة والعشرين تعود الذكرى قاتمة بلون الألم الذي تركه استشهاد الفنان ناجي العلي التي تصادف هذه الأيام ذكرى غيابه والوطن العربي يعاني مايعانيه من نزف وجروح، وفلسطين التي شكلت همه الأول تعاني ما تعانيه من صلف العدو وطغيانه، وهاهي غزة المحاصرة لسنوات طويلة تجدد انتصارها كل لحظة عبر صمود أبنائها الذين أدركوا أن كل انتصار هو خطوة في طريق التحرير والثأر لدم الشهيد ناجي العلي وكل الشهداء الذين قضوا دفاعاً عن أرضهم ومبادئهم والتزامهم بقضيتهم فلسطين التي تملكت عقولهم وقلوبهم فنذروا أنفسهم من أجلها.. اليوم، تحضر الذاكرة بكل تفاصيلها لتستذكر فناناً اختار الوطن حلماً قضى من أجله، فقد حمل ناجي العلي قضيته في وجدانه هاجساً مراً يجرح الروح ويدمي القلب، كان يتحدث عنها بشوق ويسترجع ذكرياته فيها وكأنه سيعود غداً، لكن رصاص الخيانة عاجله ولم يمنحه فرصة الحياة ليعيش تلك اللحظة.
كانت أعماله عبارة عن لوحات ومشاهد شملت الجوانب القومية والإنسانية عبّر عنها بشاعرية تمتزج بالألم والأمل، فما من ومضة تضيء فكرة وتحمل هماً مشتركاً إلا وعمل على إيصال نورها إلى العالم القريب أو البعيد منه، فالفكرة كانت الهدف والغاية، والفن هو الوسيلة لإيصالها، وهذا كان الرابط لديه بين الرسم والكلمة. صوّر فلسطين والبيوت والأسلاك المحيطة بها، وجسّد في لوحاته تجذر أبناء فلسطين في أرضهم وجباههم مرفوعة لتطاول الأفق.
لم يكن ناجي العلي يملك سلاحاً سوى ريشته وتلك الأفكار التي ينتقد فيها الواقع بكل معطياته، والتي ضمنها رسومه الكاريكاتورية، وقد عبر فيها بصدق عن موقف المواطن العربي بشكل عام والفلسطيني بشكل خاص تجاه الأحداث التي يعيشها الوطن العربي.
وكانت رسومه هذه بما تحمله من أفكار صادقة تقض مضاجع المتاجرين بالقضية والمتآمرين على مواطنيهم لأنها تحث على إيقاظ الضمائر النائمة، والتذكير بفلسطين المغتصبة والشهداء الذين استشهدوا من أجلها، لكن هذا الأسلوب لم يرق لهم فقرروا أن يتخلصوا منه، وكانت لحظة الاغتيال التي أصابت الجسد بينما الروح انتقلت لتخلد في ذاكرة كل عربي، وبقيت أعماله ورسومه شاهدة على تاريخه النضالي والبطولي، ونبراساً ينير للجيل المقاوم طريق البطولة والفداء.
وهاهو حنظلة وصية ناجي العلي الأخيرة، قد أزهر ربيعاً من المناضلين لتحقيق الوصية والالتزام بها.. حنظلة الذي وصفه ناجي العلي أنه شاهد العصر الذي لايموت.. الشاهد الذي دخل الحياة عنوة ولن يغادرها أبداً.. الشاهد الأسطورة، الشخصية غير القابلة للموت، ولدت لتحيا ، وتحدت لتستمر، هذا المخلوق الذي ابتدعته لن ينتهي من بعدي ، بالتأكيد ، وربما لا أبالغ إذا قلت إني قد أستمر به بعد موتي..)
إن “حنظلة” الذي خلق من رحم الألم يمثل الجيل القادم بكل ما ورثه من عناء وهزائم وتخلف… إنه ضمير أمتنا الحي وصوت البراءة الطفولية الذي لا يهادن، بل يعطى الأشياء ألوانها ومسمياتها الحقيقية.