اقتصادتتمات الاولى

“العلوم الاقتصادية”.. نقاش حار حول التنمية والهوية الاقتصاد السوري من المحنة والكبوة إلى النهوض والتنمية.. كفانا تجارب فالمطلوب أن نعتمد على قدراتنا وذواتنا

ما زالت جمعية العلوم الاقتصادية مواظبة على إثراء الحراك الاقتصادي والاجتماعي رغم الظروف والأزمة والصعوبات القائمة في المكان، وعبر حلقات النقاش الاقتصادية التي تقدّمها في مقر الجمعية أثير حوار مهم ومطلوب في مجال التنمية والإعمار، قدّمه الدكتور منير الحمش حول الأنموذج الوطني للتنمية والإعمار، شارحاً وضع الاقتصاد السوري من المحنة والكبوة إلى النهوض والتنمية، حيث أكد أن غزارة التجارب التنموية التي مرت بسورية وتنوّع خلفياتها السياسية وتعرّض الاقتصاد السوري لتخريب متعمد، إضافة إلى ما خلفته الأحداث الدامية في مجتمعنا، ونتاج السنوات الطويلة من العمل الاقتصادي دون تلمّس أنموذج وطني يعمّق النجاحات ويتلافى أسباب الإخفاقات.
وأكد الحمش أهمية تحديد هوية الاقتصاد السوري والاعتماد على القدرات وشدّ حبال التوثيق بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وهذا لا يكون إلا نتاج عملية حيوية مخططة، فالسوق وحدها لا تستطيع أن تحقق التنمية، وكذلك التخطيط المركزي المستند إلى الدولة ومؤسساتها لا يستطيع النهوض بالتنمية أحادياً، والمطلوب إيجاد نوع من التزاوج بين السوق وآلياتها والدولة ومؤسساتها، والخروج بنظام يستطيع أن يحشد جميع الموارد البشرية والاقتصادية في البلاد، ويوجّهها نحو تنفيذ برنامج تنموي يساهم في تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية.

والزمن أثبت
تجارب التنمية في بلدان العالم الثالث أثبتت أن النمو الفعلي لا يمكن تحقيقه في إطار التبعية للاقتصاد العالمي، والتنمية المستقلة هي الطريق السليم، ما يعني توفير أكبر قدر من حرية الفعل للإرادة الوطنية المعتمدة على الحراك الشعبي في مواجهة القيود التي تفرضها المؤسسات والمنظمات الدولية، وتغليب المصلحة الوطنية على مصالح الخارج، وتأكيد ذلك يبرز أهمية الاعتماد على الذات وحشد الموارد وتوجيهها، وإيقاف هذا الجدل العقيم في المفاضلة بين القطاعين العام والخاص، لأن المطلوب زج جميع القدرات في مسار التنمية.

الاعتماد على الذات
رغم ما تم تقديمه في إطار شعار الإصلاح الاقتصادي، فإن الاستثمار الأجنبي والقطاع الخاص لم يقدّما استثمارات جدية، واقتصر الاستثمار في سورية على مصالح المركز الرئيسي للرأسمالية المتمثل بالولايات المتحدة والصهيونية، ولذلك فإن السيناريو التنموي المطلوب يحتاج إلى الاعتماد الجماعي على الذات والتنسيق في إطار إقليمي عربي أو تجمّع دولي جديد لدول “بريكس”.
وترجمة لذلك تأتي مسألة ضبط الاستهلاك والاستيراد بهدف رفع الادخار المحلي، وعدم بعثرة وتشتيت الفائض الاقتصادي، والنهوض بالقدرات العلمية والتكنولوجية، فالتوليد المحلي للمعرفة شرط مسبق للتقدم، والاشتراك المباشر للدولة في مجال الإنتاج والاستثمار أيضاً من أهم عوامل التنمية والإعمار المطلوبة، ولابد من تمكين الناس المهمّشين من المبدعين في العملية السياسية والنظر إلى عملية المشاركة على أنها حق من حقوق المواطنة.

تأكيد القدرات
يؤكد الحمش أن الاعتماد على الذات في التنمية سيواجه صعوبات كبيرة وكثيرة، أهمها تنامي دور القوى الرأسمالية الجديدة وطبقة رجال الأعمال الجدد الذين كوّنوا ثرواتهم نتيجة الصفقات والعمولات واستخدام النفوذ، كذلك مواجهة تجار الأزمات الذين نموا في ظل حركات الإرهاب، هذه فئات غير الطبقة البرجوازية التقليدية التي حافظت على نشاطها التجاري والصناعي في ظل التحوّل الاشتراكي والتعددية الاقتصادية.
و بيّن أن رجال الأعمال الجدد الذين نسجوا علاقات متميزة مع البيروقراطية والمؤسسات العالمية ومبعوثي الاتحاد الأوروبي وكثير من رجال الأعمال العرب الذين عملوا بالمضاربة العقارية والمنشآت السياحية وانسحبوا إلى خارج سورية في وقت الأزمة، سيعملون الآن على إعداد تصورات العودة مع برامج إعادة إعمار تعدّها المنظمات الدولية والشركات الأجنبية، وهؤلاء جميعاً من خريجي مذهب الليبرالية الاقتصادية الجديدة، يقفون مع قوى الفساد ضد استعادة مسار التنمية المستقل المعتمد على الذات.
ولمواجهة ذلك مطلوب -حسب الحمش- توجيه المسار التنموي نحو إشباع الحاجات الأساسية لأغلبية السكان وإحداث تغييرات هيكلية في الاقتصاد الوطني وعلاقاته الخارجية بما يسمح بتنشيط حركة التصنيع وانتهاج سياسة تجارية وصناعية انتقائية، ويحدّ من استيراد السلع غير الضرورية، ودعم الصناعات التي تلبي حاجة السكان، وجذب الاستثمارات التي تموّل مشاريع استراتيجية بهدف نقل التكنولوجيا وتوطينها ورفع القدرة التنافسية للمنتجات المحلية ودعم التصدير.

الإصلاح الإداري
والعامل الأهم هو إصلاح إداري شامل يتضمن محاربة الفساد وتجفيف منابعه، وكل ذلك لا يبدو مستحيلاً رغم صعوبته في حال توفر الإرادة السياسية لدى أصحاب القرار الاقتصادي السياسي وتأكيد الالتفاف الشعبي وأهمية المشاركة.
ورغم صعوبة الواقع والمسؤولية الكبيرة الملقاة على الدولة، فإن وضوح الرؤية وسلامة الطريق وامتلاك البوصلة التي تكشف أي انحراف سلبي، هي عوامل تشكل أهمية تحديد الهدف واستعادة زمام المبادرة في بناء دولة قوية باقتصادها ومجتمعها وجيشها، وهذا يحتاج إلى بناء السياسات الاقتصادية والاجتماعية الشاملة المستقلة وتحقيق معادلة النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية والمشاركة الشعبية والديمقراطية، ونجاح الدولة في التنمية سيقوم على مقومات المشاركة والشفافية والمحاسبة وحكم القانون والفاعلية والإنصاف.

الحاجة للحوار
رئيس جمعية العلوم الاقتصادية الدكتور كمال شرف انتقد عملية العزوف عن الحوار وغياب المسؤولين عن المشاركة رغم احتياجهم إلى سماع الآخر، مضيفاً: نحن بحاجة إلى سماع النخبة، وسنتابع كلما وجدنا الوقت المناسب للتذكير، فمحنة سورية ساهمت في إعطاء العامل الاقتصادي دوراً أكبر.
وتساءل: هل البلد قادر بالإمكانات الذاتية على إعادة الإعمار، وهل بإمكاننا ألاَّ نعطي الفاسدين دوراً للإعمار في مجال البنية التحتية وإعادة العجلة إلى الوراء في النمط الاستهلاكي.

تشابك
الدكتور نبيل مرزوق أشار إلى وجهات النظر المطروحة، وهل يتحمل العامل الاقتصادي ما جرى، مؤكداً أن التنمية مهمة ولكن هناك تشابكاً بين السياسي والاقتصادي، لدينا مشكلة تنموية اجتماعية ضاغطة وفساد وتسلط، وأضاف: إن إطلاق تنمية التوازن عند النمو لا يمكن أن يصلح، فلدينا فساد، والمؤسسات لا تعمل بشكل صحيح وهناك ضخ تسلطي يؤثر في مجمل عملية التنمية، ولابد أن نفهم الأسباب التي قادت إلى الأزمة، وأن نستخلص منها العبر والتفكير بشكل صحيح.
من جانبه لفت حنين نمر عضو مجلس الشعب إلى تهميش الإعلام وحقيقة دوره وعدم اهتمامه في توثيق المنعطف المصيري الذي نعيشه، حيث نحتاج إلى نظير سياسي للمساهمة بالحل، ولا نستطيع استغلال مواردنا وتوفير إطار أكثر انفتاحاً يساعد على استثمار المزيد من الموارد المالية التي يجب ألا تبقى في أيدي رجال الظل، وتحقيق انفتاح تعليمي، فعملية التنمية مترابطة بين كل الأطراف الاقتصادية والاجتماعية وتحتاج إلى استنفار إمكاناتنا الداخلية وإثارة القدرات الكامنة والاعتماد على الذات ومصادرة أموال الفاسدين وربط السياسة بالاقتصاد والتغيير والتنوير وإعطاء هامش أكبر للحريات.

مفاهيم جديدة
غسان القلاع رئيس غرفة التجارة قال: نحتاج إلى بناء مفاهيم جديدة في مناهج اقتصادية مختلفة، متسائلاً: لماذا نمشي على السكة نفسها التي خاضتها التجارب العالمية وفشلت، والمواطن يجب أن يساهم في العمل في مجال التنمية، والتمويل ليس محلياً ولكن ليس أيضاً قروضاً على الأجيال لمئة عام، هناك تجارب ناجحة في دول العالم ولم توقع قروضاً، مثل اليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية.

لم تركز
الدكتور نبيل سكر أشار إلى السياسات الاقتصادية والفساد الذي خلق الأزمة مع غياب دور المجتمع الأهلي، مؤكداً أن المطلوب توثيق هوية الاقتصاد السوري وإنهاء التهميش، وتحاشي الأخطاء والاستفادة من التجارب، فمواردنا المحلية لا تكفي، وليس لدينا تخطيط، ونحتاج إلى الاستدانة، ومطلوب أيضاً وضع ضوابط لمشاركة القطاع الخاص، فما أخطأنا به هو أننا لم نركز على السوق ولم نعمل على الاجتماعي.
ابتسام المغربي