ثقافة

(سجن النسا) زمن العار العربي

تستند بعض الأقلام النقدية والصحفية، وقسم من جمهور الدراما – في تناولها للمسلسلات والأعمال التلفزيونية – إلى المنظومة الأخلاقية للمجتمع، والتي كثيراً ما تحجب الرؤية عما يعتمل داخل المجتمعات من صراعات ومشاكل وخبايا بحجة عدم نشر الغسيل الوسخ، أو حفاظاً على قانون العيب الاجتماعي والتمسك المزيف بالتماسك الاجتماعي، المغلف لمجتمع مهلهل ومتفسخ ومليء بكل أسباب الانهيار القيمي والثقافي والسياسي.
وأكثر موضوع يستفز هؤلاء المدججين بالوهم الأخلاقي: هو موضوع المرأة والحب وقضايا الجنس، رغم أنها (هذه المواضيع) هي أساس استمرار البشر والاجتماع وتطور الإنسانية.. مختبئين وراء ما يسمى بالحياء الاجتماعي وحجب المواضيع الحساسة عن الأطفال ومنع المرأة من الاطلاع من خلال الفنون عن كل ما يقمعها ويهين إنسانيتها ويحيلها إلى شيء من مستلزمات الرجل، ينتقد هؤلاء الأعمال الدرامية ويعتبرونها مضرة بالمجتمع ويجب منعها؟! محتمين بالدين وبتعاليمه التي يفسرونها على هواهم، لا يقبلون بمعالجة الدراما لقضايا الخيانة الزوجية أو الشذوذ أو الطائفية، وكأننا بحجب هذه المواضيع نكون قد أزلناها من المجتمع؟! رغم أنه من المعروف علمياً أن عدم حل المشكلة وعرضها وفهمها يزيد من انتشارها وتفاقمها لتصبح مرضاً اجتماعياً يساهم في التفكك الأسري والمجتمعي، وبالتالي ينخر النسيج الوطني للمجتمع.
من الأعمال التي تعرضت لنقد (أخلاقي) المسلسل المصري (سجن النسا) حيث طالب كثر بمنعه، لا بل بمحاكمة القائمين عليه من كتاب ومخرجين وفنانين. العمل مأخوذ أساساً عن مسرحية كتبتها الكاتبة الراحلة فتحية العسال (1933- 2014) بعنوان سجن النساء، حيث تحكي في مسرحيتها عن تجربتها كمعتقلة سياسية وسجينة رأي في السجون المصرية، وما رأته ورصدته خلال فترة اعتقالها من نماذج إنسانية غنية، حيث تقدم العسال نماذج لسيدات أودعن سجن النساء و تعرضن للظلم من المجتمع فوصلن إلى السجن، حيث القانون هنا لا يحفل بأسباب الجريمة وظروف نشأتها، بل بالنتيجة والفعل الجرمي، فالنساء في المسلسل كما في الواقع سرقن وقتلن ونهبن وارتكبن الجرائم ليس لأنهن سيئات أو مجرمات أو لأنهن تربين على الإجرام، بل لأن المجتمع أدار لهن ظهره ودفعهن دفعاً للجريمة….
العمل الذي كتبت له السيناريو والحوار مريم ناعوم وأخرجته كاملة أبو ذكري يدور حول سيدة تجد نفسها فجأة خلف الأسوار فتتعرف على سجينات مظلومات ومدانات، تنقلب حياتها رأساً على عقب بعد خروجها من السجن، فنراها شخصية أخرى تشكلت ملامحها وأخلاقها وأسلوبها من جديد، وكرّست حياتها للانتقام ممن كانوا السبب في أن تبتعد عن بيتها وأولادها عدة سنين، فالحياة القاسية في السجون واحتمالات النجاة القليلة، تشكل مأزقاً، يتكثف فيه القهر عبر (العتمة/ القذارة/ الاختناق)، مما يجعل الإنسان في حالة عجز عن تغيير الواقع والتكيّف قسراً مع التحوّل المجتمعي النفساني الذي يفرض شروطه بالإكراه على الفرد، فلا يكون أمامه إلا الإذعان للمرارة والخيبة….، نيللي كريم (السجانة في السجن) امرأة ورثت عن والدتها لعبة السجّان في زمن الضحايا. لم يكن أمامها سوى التصرّف بأمانة لوالدتها…، أما (درّة) فهي شابة دفعها الفقر إلى التوغل في الدعارة، فإذا بها مسجونة في سجن آخر غير سجن جسدها…فيما مصر في الخارج (خارج السجن) تدلف بفعل القهر والظلم والقمع والذل إلى زمن سمي (الربيع العربي)، هنا ثمة تداخل بين سجنين كل منهما سبب للآخر، ويجمعهما إطار واحد هو الاستبداد الاجتماعي والسياسي المحمي بسيوف الدين الحامية للرذيلة، وهنا الناس قسمان سجينٌ أو سجّان، وهم في الحالتين مظلومون وضحايا لأنظمة القهر والحرمان وتقاليد القبيلة، فالسجن العربي لا يضم من هم فقط داخل القضبان، بل من هم خارجه فحتى السجانة غالية، الممنوحة السلطة والقوة والسوط والقدرة على فرض إرادتها تعيش آلامها وكأنها سجينة من خلال حياة عاطفية فاشلة. حيث تكتشف علاقة زوجها مع نوّارة بعد زجه في السجن، وهنا تتشابه مصائر السجينات والسجانات وكأننا في رحلة حياة عبثية… ورغم العناوين العريضة (للثورات) والاحتجاجات إلا أن قوة الكبح الاجتماعي والسياسي تديم العسف والظلم وتحيل كل التغيرات التي تحدث إلى أوهام كذبة كبيرة، فكلنا ضحايا للموروث الاجتماعي والسياسي الذي أفضى بنا إلى التفكك الاجتماعي والانهيار الاقتصادي والاستبداد السياسي – الديني المركب، ما أدى إلى أن نسرع إلى الهاوية، لذلك لا تجد إحدى بطلات (سجن النسا) إلا الانتحار حلاً لحياتها البائسة، وهذا هو القرار الوحيد الذي اتخذته دون أن يتدخل فيه أحد، ورغم ذلك لا ينجح انتحارها..؟!
من ناحية ثانية يعرض المسلسل بجرأة لقضية التحرش الجنسي الظاهرة الفاقعة عند العرب، وخاصة في مصر، ففي أحد المشاهد يقوم شخص بالتحرش بحياة في الباص (فما إن اقترب منها الرجل ولمس جسدها، حتى انتفضت… لكن لم يقو لسانها على المواجهة والاعتراض، فالمرأة هي الطرف الأضعف قانونياً ووضعية اجتماعية، لذلك عليها بلع الإهانة وانتهاك حرمة جسدها نهاراً جهاراً والصمت درءاً للفضيحة التي هي في النهاية فضيحة مجتمع لا يرى في المرأة سوى ساحة للغرائز والإغواء ودريئة تجرب فيها القبيلة سيوف شرفها المثلوم؟! المشهد هذا مؤلم جداً لأنه متقن إخراجياً، فهناك الخلفية الصوتية، حيث تنبعث آيات القرآن من كاسيت الباص، فيما الرجل يتابع تحرشه وإيغاله الوقح بجسد المرأة- الضحية، فيما صوت القارئ المرتل للقرآن يرحل بعيداً عن سمع الرجل الممسك بتلابيب الدين وحروف الآيات…) (حياة) في المسلسل هي أغلب النساء في منطقتنا العربية، والتحرش جزء من رحلتها اليومية إلى العمل، لكن الصمت هو سلاحها الوحيد، فالاحتجاج في عالمنا العربي هو الفضيحة، بينما الفعل هو الرجولة!!..
المسلسل تعرض للرجم بأحجار المجتمع المهووس بإخفاء جرائمه خوفاً من العار، رغم أنه، وبكل جوانبه، مجتمع متلفع بالعار والفضيحة..هو يتستر على الفعل كحل للخوف من علاج المشكلة ومواجهتها ومحاسبة الفاعل وموروثه وعقده ..فمن عظائم الأمور أن نرى تهتكنا الأخلاقي على الشاشة، أو في وسائل الإعلام، كيف لا ونحن نعتبر أنفسنا أبناء (خير أمة أخرجت للناس) لذلك وصف البعض المسلسل بالإباحي، وحكم عليه بأنه (قليل أدب) ….فالمطلوب حماية تقاليد الذكورة ومنظومتها القمعية الاستبدادية المدعومة بسلطة رجال الدين وحلفائهم من ساسة الفساد وأجهزتهم الأمنية الحامية لزمن العار.
أحمد خليل