ثقافة

لكل الألوان.. النفير واللغة متاحة لأجل (أنا مع حفظ الألقاب)

قسم الشاعر رائد خليل مجموعته الصادرة عن دار نون إلى قسمين. ضم الأول قصائد نثرية بينما ذهب الثاني إلى الومضات، فاكتسى بغزارة نصية ومدلولات دفعتنا للوقوف عند القسم الثاني فقط من الكتاب. وبالطبع هذا لا ينفي أهمية القسم الأول.
وريقات منفصلة وجذع واحد هو العنوان العريض والعتبة ذات الخط الكبير المفضي إلى المنطقة الشائكة التي اختار لها الشاعر أن تكون مواجيز أو ومضات شعرية تستند إلى تربة واحدة وهي اللغة والأسلوب الشعري، وتعلو في الفضاء خضراء هيفاء، فالعتبة مدخل أو موجز يكثف رحلة الحلم، وذلك القلم لا يكف عن النزف وكأن الانخراط بروح الكون المنهكة هي المسيرة العظمى.
الخيال الشاسع يتبدى مع كل ومضة، فالشاعر يستفيد من كل التضاريس الطبيعية والشعورية، المد والجزر، النور والصمت، الوقت باحتراقه انتظاراً وجنوناً، الحروف التي نطقت وتلك التي تبحث عن أخرى تتناغم معها لتؤلف وجداً قابلاً للتأويلات، فهناك معانٍ وكوامن تستحق الصوت، هناك أفكار لا يجمعها إلا الرأس الحالم، وهناك ثقافة حياتية ولغوية ونبش في النصوص الدينية والأدبية والمقولات الشعبية. يقول مثلاً (أنا بابك المفتون على مصراعيه فلا تنسي مقبض الاحتمالات) هنا يتكئ الشاعر على مفردات سبق أن قيلت في سياق معين فأحضرها وأدارها وشكّلها مستبدلاً حرف الحاء (المفتوح) بحرف النون (المفتون) مبتكراً بذلك حالة شعرية خاصة. تتكرر هذه الحالة التناصية مرة أخرى حين يقول ( وإذا ذاكرتي خانت فبأي ذنب نحرت) لكننا نراها أقل شعرية مما ترتقب الروح حتى لو صيغت بهذا التكثيف اللغوي. أيضاً حين يقول: (تعرفين أنك قضيتي المركزية) ربما لا تتوافق هاتان المفردتان قضية ومركزية مع المأمول من التركيبات اللغوية الشعرية التي مناخها عاطفي حسب المقطع هنا، وقد اعتدنا على ورودهما في المقالات السياسية.
هذه النصوص الشعرية ذات الكلمات محدودة العدد شاسعة المعاني، قسمت شكلياً إلى ما يشبه الفصول المعنونة بنصوص، ما أفضى إلى ازدحام لغوي متعب للقارئ، فالمساحات البيضاء بين نص وآخر وبين فصل وآخر كانت مهمشة وضيقة، والقارئ بحاجة إلى بعض البياض أو الصمت من أجل الاستمتاع بما نال من وجبات دسمة والتقاط الأنفاس استعداداً لجولة قادمة.
في مواضع أخرى يبرز خيال وتعبير لغوي آسر كما حين يقول (الخاطر مكسور.. يسير على عكازين.. من دموع) هنا ذكاء وحس تواءما ليخلقا هذه اللمعة الشعرية التي تناصت مع ألف باء الجموح والترحال صوب أعمق الالتقاطات مع أنها متكئة على قول موروث.
أحياناَ زج الشاعر بمفردات تبدو أثناء القراءة زائدة عن الحاجة بل ومعطلة للتدفق كحين قال (ارتداني البكاء فنسجت من خيوط الدمع ثوباً) ما كان من داعٍ لجملة من خيوط الدمع..
اللمعات الشعرية الوجدانية والتي بإمكانها غرز ورودها الأرجوانية في روح القارئ هي أكثر من أن نقف عندها جميعاً، فهناك اندماج بقدرة الحب على أن يتكاثر ويتعمق ظلالاً يشدو فيه الدمع كما الاستفهام، فالغنى سيد هذا الدرب وكل الأوتار متاحة، كل التفاصيل المكانية والزمانية واليومية يمكن العزف عليها، فقط عليه أن يستنطق الأشياء ويدمجها باللحنيات، وهذا ما تبدى جلياً في معظم النصوص التي وإن تعثر بعضها بمفردات أو إضافات غير مشبعة بالحس أو غير ملائمة، يبقى لها خصوصيتها كحين قال (سأضمك.. تباً لكل الحركات).
لابد للألوان من النفير بين ضفتي هذا البوح، وهو الشاعر الرسام الذي أضاف إلى عنوان مجموعته تعريفاً أو إبلاغاً كأنه يضع المجموعة بين قوسي تأملات ملونة، فكيف له ألا يستعير من الألوان صخبها وهدوء بعضها، وكيف له ألا يكون رساماً بكلماته يقول مثلاً (قوس قزح مكفهر.. ألونه.. كي أقنع.. نفسي أنك هطلتِ).
ذيّل الشاعر مجموعته بومضة غامقة اللون قال فيها (كم أنت مهضومة كحقوق البشر) وكأنه يريدها أن تكون الأكثر تأثيراً ولعل ضمير المخاطب أنتِ يقصد به اللغة أو الكتابة أو حتى مجموعته بحد ذاتها، فهو يغار على اللغة التي هي سبيل الوجود إلى الارتقاء والتواصل لعلمه كم من مجرم يقطع عنقها بجهل.
سوزان الصعبي