ثقافة

ما الفائدة من الفنّ؟

إبراهيم أحمد
عندما وصف أفلاطون مدينته الفاضلة، اقترح أن يستبعد عنها الشعراء بسبب نزعتهم إلى تحريك المشاعر بدلاً من تقوية المنطق. أما جان جاك روسو، منظّر كتاب العقد الاجتماعيّ المهيأ للثورة، فقد أثنى في رسالته “رسالة إلى ذا لامبير حول العروض المشهديّة” على إلغاء المسرح في جنيف وأوصى بإزالة هذا الفن المفسد “الذي يستثير النفوس الشريرة” وفي الحالتين يتعلق الأمر بربط دور الفن بمنفعته السياسية أو الأخلاقية. واليوم قد تبدو هذه الأقوال على الأرجح رجعية بشكل فظ، فمن ذا الذي يمكنه أن يطرح على بساط البحث استقلالية الفن الكلية، وكيف يمكن القبول بمعايير غير المعايير الفنية يقوم عليها العمل الفني؟ فالحكم على الفن على أساس رسالته وفضائله الاجتماعية لا يعني فقط المجازفة بحرمانه حريته الأساسية، بل بشكل أعمق تشويه طبيعته، فليس للفن حسابات يؤّديها إلا أمام نفسه.
يبدو أن النقاش قد أقفل، لكن ليس هذا هو فعلاً الحال: فبمعزل عن الرقابة المطلوبة بين الحين والآخر بسبب انتهاك المعتقدات أو الأخلاق الحسنة الخ، يبقى التساؤل حول دور الفن ذائباً في المطالب التي ترفع إلى المؤسسات “الثقافية” المفترض أن تبّرر حصولها على المساعدات خصوصاً في الأمس، حينما ساهمت في التحرّر الديمقراطي واليوم عبر عملها على توثيق “العرى الاجتماعية”، أياً كان مفهوم هذه الأمور. فهل الموقف موقف “نخبوي” أم موقف “شعبوي”؟ وهل المطلوب هو الفن للفن أم الفن للآخر؟
هنا تقوم الخيارات الممكنة، لكن ليس من المؤكّد أن هذا الأمر البديهي الثنائي الوجه يعود إلى منطق لا يردّ، بقدر ما هو نابع من تركيبة تاريخية أومن مواجهة إيديولوجية، إذ يبدو الجدل حول أعمال غوستاف كوربيه. والذي اعترض من خلاله إميل زولا على عمل بيار جوزيف برودون (الذي نُشر بعد وفاته) معبّراً إلى أقصى الحدود. فقد كان كوربيه قد طلب من برودون كتابة نص أحد كتيُبات معرضه، فتحول كوربيه موضوع احتفال وتشنيع لأنه سفسف الفن: فهو كثير “الواقعية” و”ماديّ في الفن”، بحسب تعبير لويس أراغون، وعندها قرّر برودون أن يحدّد ما هما الفن والفنان الحقيقيان. وقد كان جريئاً في ذلك، فقد أسقط التعارض بين الواقعية والمثالية، مؤكداً أنه يستحيل الفصل بين الواقعي والمثالي، وبين الشيء المرئي والنظر الذي يعطيه معناه. وشدّد على أن الفنان “مدعو إلى المساهمة في خلق العالم الاجتماعي”، مقدّماً صورة مثالية عن الطبيعة والإنسان “تحقيقاً للتمامية المادية والفكرية والأخلاقية للبشرية، ولتبريرها لنفسها، وأخيراً لتمجيدها”، وهو باسم الاشتراكية الثورية أمكنه أن يؤكد بكل صفاء أن الفن للفن ليس بشيء، فالهدف من الجمالية التي يتوخّاها الفنانون هو تجميل الإنسان، وليست الموهبة أبداً ملكاً خاصاً للفرد، بل هي”نتاج ذكاء عمومي وعلم عام راكمه العديد من المعلمين، وقد استعان بالعديد من الصناعات الدنيا”. وليس الفنان، وإن تميز بمواصفات مختلفة، أرقى بشيء عن العامل. بطبيعة الحال يعُتبر هذا رأياً باهراً. وقد جاء ردّ زولا متعجرفاً ومفحماً وعلى الأرجح أكثر تساوقاً مع أهواء عصرنا: “إن عالمنا المثالي الخاص هو كناية عن حبنا وانفعالاتنا”، وما يهم هو الأصالة والتعبير الحر من شخص ما، وليس فائدتهما. أساساً، لقد ذكّر تيفيل غوتييه في مقدمته لـ “مادوموازيل دو موبان” أنه ليس هناك حقيقة ما هو جميل إلا ما لا يفيد بشيء…”.
وختاماً يبقى أن نحدد ما الذي يجعل من الأصالة فضيلة فنية. هذا ما يرسمه زولا مشدداً على أنه لا يمكن اختزال الرسم بموضوعه، لكنه هنا يحتفي أولاً بالفردانية في نهاية القرن التاسع عشر، ذاك الذي شهد ازدهار الرأسمالية والقيم البورجوازية والخشية من الجماهير. لكن ما الذي أراد تأكيده عندما أعلن أنه كفنان يريد أن “يعيش في الأعالي”؟ إنه الحق الساطع بالفرادة الذي يضفي على الفن شرعيته مقابل نزعة المساواة، أو بالأحرى تلك المنفعة الخفية من تبلور حياة تساعد على تحسن الأحزان والعظائم الممكنة؟ فهل في هذا تنافر مطلق أو أن العمل الفني بحد ذاته لا يمكنه تجاوز هذا التناقض أيّاً تكن تأكيدات صانعه؟ ذلك أنه كما قالها شارل بودلير: كل عمل فني هو دائماً عمل أخلاقي وسياسي، إنه رؤية للعالم وسلّم من القيم.