ثقافة

الفيلم التلفزيوني “مجنون كفاية”.. أينا العاقل وأينا المجنون؟

تغيب الأفلام التلفزيونية عن معظم الشاشات التي تحتفل بالفيلم السينمائي فقط، متجاهلة بقصد أو دونه الفيلم التلفزيوني الذي يشكل معادلا بصريا مليئا بالدهشة والفرجة الجميلة والراقية أيضا باعتبار أن الفيلم التلفزيوني يضع المعايير التلفزيونية للعرض كشرط من شروط صناعته.
فيلم “مجنون كفاية” من الأفلام التلفزيونية التي تقدم فرجة ممتعة ومفيدة في سياق قصصي يحافظ على عناصر القص بموضوعيتها وتراتبيتها أيضا.
لا ينفصل عنوان الفيلم عن سياقه العام وعن خطوطه الدرامية التي تتقاطع مع مفهوم الحكاية إلى حد كبير، فـ “مجنون كفاية” من الأفلام التي تنهل من الواقعية المتضمنة شيئا من الغرابة التي تحدث في حياتنا الشخصية، دون أن تبالغ في طرحها لما تقدم، ولكن قبل الخوض في تفاصيل الفيلم لا بد من توضيح بسيط يبين الفروق البينية بين الفيلم التلفزيوني والفيلم السينمائي.
نستطيع القول أن جوهر الاختلاف يكمن في التقنية التي يصُنع بها كلا الفيلمين، سواء كانت تقنية آلية بحتة، أو تقنية كتابة السيناريو أو النص.
أولى تلك الفروق هي نوعية الكاميرا المستخدمة في تصوير الفيلم ،فالكاميرا التي يصور بها الفيلم السينمائي مختلفة كليا عن الكاميرا التي يصور بها الفيلم التلفزيوني، كما أن عدد الكاميرات يختلف أيضا، فبينما هي واحدة في الفيلم السينمائي تتبدل مواضعها حسب الكادر المراد تصويره وتحديد زاويته ومختلف نقاطه الفنية، قد يصل عددها إلى الخمسة بالفيلم التلفزيوني، وهنا تتبدى الفروقات في الإضاءة والتباين اللوني وحتى في أداء الممثلين، إذ غالبا ما يعتمد الفيلم التلفزيوني بشكل كلي على إظهار قدرة الممثل وطاقته ويركز على أفعاله وانفعالاته، دون اهتمام زائد بالخلفية الخاصة بالكادر بشكل عام.
ثاني تلك الفروق هو النص، فالنص السينمائي له أسلوبه الذي يتبلور جراء تقديمه بإيقاع يختلف كليا عن إيقاع الحكاية التفلزيونية. طبعا توجد العديد من الفروق والشروط الفنية أيضا ولكني أردت أن أبين أبّسطها نوعا ما.
يحكي فيلم “مجنون كفاية” الذي قام بإخراجه ” lance mcdanel “ وبطولة كل من “Chris Kattan  وBrook Anna leedy” قصة اجتماعية واقعية ذات دلالات ومضامين اجتماعية مباشرة بقالب كوميدي يتضمن العديد من المواقف الدرامية التي تشتغل على الإنسان بطبائعه المتباينة والظروف الغريبة التي قد تغير مسار حياته بمحض الصدفة الغريبة أيضا، إلا أن الفيلم يعطي لهذا الطرح أبعاداً فلسفية وجودية وعبثية بآن تذهب للقول: أينُا العاقل وأينُا المجنون، ومن يستطع أن يحدد ذلك؟ هل هو الطب النفسي الذي يظهره الفيلم بأنه لا أخلاقي ويخضع لمزاج السياسة وقواعده الدنيئة نوعا ما، أم العائلة التي أخذتها معطيات الحياة إلى مشاغلها بحيث لم تعد مكترثة إلا بأناها.
·    القصة التي يقدمها “مجنون كفاية” تم التطرق إليها في الكثير من الأفلام والأعمال المسرحية وحتى في العديد من حكايا تراثنا العربي والتي تقوم على تبادل الأدوار في الحياة بين عاقل ومجنون هذا هو القالب العام للفيلم ،حيث يبدأ الفيلم بمشهد كرتوني وهو عبارة عن طائر لقلق يحمل سلة بمنقاره ويضعها أمام مصح نفسي، ليتضح أن ماهو موجود في السلة هما طفلان توءم لا أحد يعلم من أين جاءا، يقوم أحد الأثرياء بأخذ طفل من السلة قبل أن تفتح الممرضة باب المصح لتجد الطفل الثاني وحيدا في السلة، هنا ينتهي المشهد الكرتوني، لتبدأ الحكاية فالطفل الذي تربى في كنف عائلة ميسورة صار طبيبا نفسيا ولديه حياة رائعة، عائلة وزوجة وفتاة مراهقة وفتى، وهذا الطبيب النفسي لديه علاقات نافذة تحكمها البراغماتية مع بعض السياسيين في أمريكا، أما الطفل الثاني التوءم، فينشأ في المصح العقلي ويُعامل منذ طفولته كمختل عقليا، ليصير كذلك فعلا، يذهب الطبيب إلى المصح بناء على طلب من صديقه السيناتور المرشح ليكون حاكم ولاية أوكلاهوما وذلك ليوقّع على أوراق تبقي ابنة السيناتور، نزيلة في المصح النفسي بالرغم من كونها عاقلة ولا تشكو من أي مشكلة نفسية ،لكن السيناتور لا يريد لأي مفاجأة أن تخرب عليه انتخاباته، وعند وصول الطبيب إلى المصح تبلله سيارة عابرة بماء قذر، فيضطر لدخول الحمام لتغيير ملابسه، وهنا يدخل أخاه التوءم المريض عقليا ليجد هوية الطبيب وأوراقه الثبوتية وهو مذهولا من الشبه الوثيق بينهما، يتخذ قراره سريعا، فيأخذ ثياب الطبيب وأوراقه الثبوتية ويخرج من المصح بينما يبقى الطبيب في الحمام وعندما يهم في الخروج يفاجأ بوجود الممرضة التي تنتظره وهي معتقدة انه المريض وتعامله على هذا الأساس، يحاول أن يشرح لها الموقف لكنها لا تصدقه باعتبار أن المريض الحقيقي كانت له الكثير من تلك الإدعاءات التي يقول فيها مرة بأنه مهندس ومرة أخرى بأنه طيار وهكذا، يذهب المريض إلى بيت الطبيب بواسطة سيارته المبرمجة الكترونيا لتحدد مسارها حسب ما يلقمها إياها السائق صوتيا، ويدخل إلى البيت ويقابل زوجة الطبيب وعائلته لكنهم لا ينتبهوا أنه ليس والدهم الحقيقي ،تتكثف الأحداث سواء عند العائلة أو في المصح لكل من الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم ،وهنا يبين الفيلم طرحه الذي يقول: إننا في زمن من الاستهلاك اليومي لحياتنا وطبائعنا ووسط هذا الاستنزاف سيكون من الصعب علينا أن ندرك بوعينا المّصادر من غرائبية الحياة وعبث أقدارها من هو المجنون ومن هو العاقل بيننا، كما أننا لم نعد قادرين على ملاحظة ما يخصنا وأي اختلاف يطرأ عليه ،إن كان هذا الاختلاف في أقرب الأشخاص إلينا أو حتى في أنفسنا. ينتهي الفيلم نهاية سعيدة ،حيث يهرب الطبيب مع مجموعة من نزلاء الفندق، وهنا يستخدم هؤلاء النزلاء قدرات عقلية وجسدية هائلة ومذهلة لتنفيذ الخطة، ويقومون أيضا بمساعدة ابنة السيناتور على الهروب، في الوقت الذي يعترف به المجنون للعائلة بأنه ليس من يظنونه، إلا أن الفترة التي قضاها مع الأسرة كانت كفيلة لتغيير الكثير من سلوكها نتيجة لحتمية تغير طبيعة والدها المزيف، يجتمع كل من الطبيب النفسي والهاربين معه والأسرة مع الرجل المختل، في الساحة التي يلقي فيها السيناتور الأمريكي خطاب ترشحه المليء بالوعود الوردية لسكان مدينته أن تكون حياتهم أفضل، وحينها تكشف الفتاة والطبيب أمر السيناتور وينتهي مستقبله السياسي، بينما يحتضن الأخوان بعضهما ليعترفا لأنفسهما بأنهما طوال حياة كل واحد منهما كان يشعر بنقص غير مفهوم بداخله، الإحساس الذي يصيب التوائم الحقيقيين بالفعل إذا صار وفرقت الحياة بينهم.
“مجنون كفاية”، من الأفلام التي تعكس بعضا من دواخلنا نحن كبشر بشكل عام، ويفسر بشروطه الفنية أننا بأي وقت معرضون لما قد يغير حياتنا وطبيعتنا إلى الأبد.
يسرى بركات.