اقتصادتتمات الاولى

استثمرت سورية بدلاً من أن تستثمر فيها… تُهمةٌ وجّهت إلى المصارف الخاصة التي لم تضطلع بدورها التنموي والاجتماعي مرحلة الإعمار تضعها على محكّ الاستثمار الحقيقي والبرهنة على صدق توجّهاتها التنموية

مضى نحو عقد من الزمن أو يزيد على عمل أول مصرف خاص في سورية، وكلما باشر مصرف جديد عمله في بلدنا زادت المراهنة على اضطلاع هذه المصارف بالدور التنموي بشقيه الاقتصادي والاجتماعي، والتفاؤل بتنشيط ودفع عجلة الاستثمار عبر تمويل المشاريع المتوسطة والصغيرة وترسيخ ثقافة استثمارية تتوافق مع عدد المصارف البالغ حتى الآن أربعة عشر مصرفاً ما بين تقليدي وإسلامي، في بلد يمتلك أرضاً خصبة للمشاريع الاستثمارية والتنموية ما زالت بكراً، إلى جانب اكتنازها بمدّخرات حيث عُرف شعبها على مدى عقود ماضية بقدرته على توفير قرشه الأبيض ليومه الأسود.
جاءت الأزمة لتقوّض عمل القطاع المصرفي شأنه شأن بقية القطاعات الأخرى، وبدأ الحديث عن إعادة الإعمار، ومشاركة جميع القطاعات الاقتصادية العامة والخاصة بهذا الملف الاستراتيجي الذي نعتقد أن للمصارف الخاصة دوراً مهماً فيه إذا اضطلعت بدورها الاستثماري الحقيقي بعيداً عن القروض الاستهلاكية والتسهيلات الائتمانية والتجارة الخارجية، فهي مدعوّة بقوة هذه الفترة بالذات إلى توظيف إيداعاتها في قنوات استثمارية، والعمل جنباً إلى جنب مع نظيراتها العامة، وأن تحاكي بالفعل متطلبات من يستحق التمويل الفعلي، لا أن تحاكي بأبنيتها الفاخرة الفنادق المتلألئة بنجومها لتستقطب عملاء من الطراز الرفيع تكفي سمعتهم المحلية والعالمية إلى جانب ملاءتهم المالية أن تكون أقوى كفالة للحصول على قروض وتسهيلات تمويلية، وذلك بشهادة أهل الكار المصرفي الذين لم يبرّئوها من التنصّل من دورها التنموي والاقتصار على تقديم قروض استهلاكية تحقق لها الربح الوفير.

اتهام
الاقتصادي الدكتور علي حسن اتهم هذه المصارف بضعف دورها التنموي، على الرغم من أهميته القصوى لتشجيع العملية الاقتصادية وتطويرها، مشيراً إلى أن هذه المصارف اتجهت في السنوات التي سبقت الأزمة إلى تمويل عدد محدود من الأسماء الكبيرة التي تمتلك فعاليات وشركات اقتصادية ضخمة وتحصل بالأساس على التمويل من المصارف السورية وغير السورية، وتقدّم المصارف لهم القروض بشروط ميسّرة.
وأضاف حسن: إن أي مصرف يباشر عمله في سورية كان يبحث –للأسف– عن كذا اسم من هذه الأسماء الاقتصادية من أصحاب الفعاليات ليعطي لكل اسم قروضاً كبيرة تصل قيمتها إلى 10 ملايين دولار، وفعلياً لا أحد يستفيد غير هؤلاء من هذه المصارف، علماً أنهم ليسوا بحاجة كبيرة إلى خدمات هذه المصارف لكونهم يمتلكون الملاءة المالية الكبيرة ويحصلون على تمويل مشاريعهم من الخارج، موضحاً أن التوجّه نحو هذه الشريحة يكمن في سهولة التعامل معها بالنسبة للمصارف من جهة أن المصرف يتعامل مع ملف كبير يعطي فيه قرضاً تصل قيمته إلى 10 ملايين دولار يدرس مرة واحدة في السنة، إلى جانب أن هذا العميل صاحب القرض الكبير لديه أعماله وميزانياته التي تسهّل عمل المصرف.
كما أن الجهد المبذول من البنك مع عميل من هذا القبيل يساوي الجهد المبذول مع عميل يطلب قرضاً بقيمة 5 ملايين ليرة سورية إن لم يكن أكثر لعدم وجود ميزانية لديه وقوائم مالية وضمانات تغطي القرض، علماً أن العميل الدسم يأخذ قروضاً في أغلب الأحيان دون ضمانات عقارية وإنما ضمانات شخصية.

أولوية
وشدّد حسن على ضرورة أن تضطلع المصارف الخاصة بالدور التنموي المطلوب بعملية الإعمار وخصوصاً تمويل المشاريع المتوسطة والصغيرة، شريطة مساعدة كل من المصرف المركزي والحكومة السورية من خلال تشجيع هذه الاستثمارات، مشيراً إلى أنه منذ ما يزيد على عشر سنوات تتحدث الحكومة عن دعم هذا النوع من المشاريع لكنها عملياً لم تقدّم ما يكفي لها.
تبرير
ينظر بعض المراقبين إلى المصارف الخاصة العاملة في سورية على أنها عبارة عن مكاتب تمثيل للمصارف الأم أو ما يسمّى (الشريك الاستراتيجي) الموجودة في الدول العربية، تقوم بدور تسهيل عمليات التمويل والإقراض للتجار الذين كانوا يحصلون عليها من المصارف الأم في الخارج، دون أن تقوم بدور مصرفي مستقل له كيانه ونظام عمله الاستراتيجي في سورية ليدفع بالفعل عجلة الاقتصاد الوطني باحثة عن الربح السريع عبر تمويل قنوات استهلاكية بحتة، وقد برّر بعض المراقبين هذه النظرة معتبرين أنها جاءت نتيجة حاجة هذه المصارف إلى الدعم الفني الذي تقدّمه المصارف الأم أو الشريك الاستراتيجي، ولاحقاً استطاعت المصارف التي عملت قبل غيرها في سورية أن تنقل المعرفة إلى مفاصل عملها وبدأت تستقل تدريجياً، موضحين أنه رغم تقلص دور الشريك الاستراتيجي في عمل المصارف العاملة في سورية إلا أنه ما زال موجوداً حتى الآن، والمصرف المركزي يضغط في هذا الاتجاه حتى تنتقل كل العمليات المصرفية إلى سورية لتصبح محلية ووطنية 100%، وهذا مرتبط ببناء الخبرات اللازمة التي ما زالت ضعيفة في سورية.

آخر القول
لا تزال المراهنة قائمة على قدرة مصارفنا الخاصة على تغيير ثقافة الإقراض والتمويل التقليدية وإثبات ذاتها على الخريطة المصرفية ليس المحلية فقط بل العربية والإقليمية أيضاً عبر تبنّيها -إلى جانب نظيراتها العامة- دعم الاقتصاد الوطني والنهوض به لمصافّ الاقتصادات القوية وبالتالي انعكاس ذلك على البعد الاجتماعي على اعتبار أنها مكون أساسي من المشهد الاقتصادي.
لعل عدد السنوات الماضية لعمل المصارف في سورية كافٍ لتتعرف بشكل تفصيلي على حيثيات الواقع الاقتصادي والمناخ الاستثماري وما يلائمه من مشاريع تتسق مع التطوّر المنشود، كما أن هذه السنوات كافية لنقل الخبرة المصرفية المطلوبة إلى سورية، ويفترض أن تشهد المرحلة الاقتصادية القادمة بصمات واضحة للمصارف الخاصة في المشهد الاقتصادي السوري.

دمشق – حسن النابلسي