ثقافة

الشعر وحريق الأصابع

أحمد علي هلال
يذهب الشعر –وهذا في صلب ماهيته- إلى أن يكون حاضراً على الدوام، ليس بضجيجه بل بنشيجه المستمر، تلك رؤيا لمن باح يوماً بأن قدر الشعر لا سيما في أوقاتنا العصيبة أن يكون حارس المعنى المضيء، وصوت من لا صوت لهم حينما تتحاور الأصابع مع الكلمات والحبر مع دم القلب، حوار سيمتد في أقاصي اليوميات الأخرى المُنتظَرة، والتي هي على مهل انتظارها في سرعة وتسارع نظراً لما يمور به مشهدها وآفاقها البعيدة القريبة، هل نكتب ما يشبهنا لطالما كان السؤال لجوجاً في إلحاحه على الذاكرة، والذاكرة بذاتها من ظلت تسجل كل خفقات الحبر، كل نبضات الكلام ليتصل المعنى بالمعنى ويصبح الكلام ذات ذكرى إيقاعاً آخر يدوزن أنين الألم المكتوم، ليسفر عن فاكهة كلام تتذوقه الحواس، وتصطفيه كما الحلم وتتوسله كما الغواية، لتلون به خارطة الدمع وأُحفورات المآقي، على الرغم من الألم الكثير، والغصة الواجفة لا شأن للشعر هنا سوى أن يكون الصدى، وأكثر من ذلك أن يكون موقفاً من العالم، موقف واحد هو الحب، وموقف من الموت هو المقاومة بالحلم والحياة، من أجل ظلال بلون الجمر وليس بلون الرماد، حتى يتم النزيف دورته القصوى في جسد العبارة وشرايين الحروف، وحتى يعود الكلام لبراءة أولى، وتعود المخيلة لنضارتها، لابد للشعر من أن يكون العتبة، ليستحق وصفه بديوان اللحظة، ذلك الديوان المتطير لاستحقاق الألم وجسارة الفرح، في استثنائية المعيش، والحلم العابر ضفافه كلها ليصير نبضة على أرض السؤال، بل خفق بشر مازالوا يتوسلون أن يكتبهم الشعر، كما لو أنه لم يكتبهم من قبل، وسيراهم في سيرورة أحلامهم ليمنحهم شرف الحياة، رغم شبهة الموت كسير، أصبح ظلاً لا براءة منه على الإطلاق، في مدونات الشعر الجديد ثمة حيوات طازجة تولم للفرح على طريقتها، لكنها لا تنفك عن عتيق أحزانها، وعن احتمالات آلامها، كاد الألم أن يكون إنسانا، وكاد الفرح أن يكون إنسانا، لكن الشعر بينهما ليس ذاك الحائر العاثر الحظ والكلمات والرؤى، إنه حالم آخر يفتش في الوجوه «الشريدة» عن وجهه، ويفتش في الكلمات المثلومة الإيقاع عن إيقاعه هو، عن بحر آخر يفوق بحور الشعر ليصبح ببحره الجديد لحظة لا تنسى جديدة توائم ما بينه وحريق أصابع مشغولة بالحكايات ونهرها وكيف إذا عطش النهر اقتربت، وكيف إذا مالت غيمة تومئ للمطر بأن يغسل جراح الطرقات-جراح الشجر-جراح بشر حالمين، بأن تكون الحياة استثنائهم وقانونهم الذهبي، وحسبه القانون الوحيد الذي يموسق الأشياء فلا تظل عابرة أمام شاشة الرؤية، وتظل فادحة الخطوات إلى فراديسها المنتظرة. ذلك أن الشعر ليس محض رومانسية عابرة أو نزعة للحزن الطليق، هو الشعر حارس الأشياء ونديم فتنتها وأسير رعشتها، تلك هويته فمن يدله على دروب ليس يعرفها، وحسبه أنه يتعرفها ليدلنا على خطانا المسروقة من عبث الغياب ومن ترانيمه الشاحبة، إلى تلك الفضاءات التي تبسط سريرتها كراحة يد ترسم عليها شمس النهار خطوطاً جديدة وتقرأها جهاراً أمام احتمال فرح يوشك أن يقول أو يقوم، ليلون ما تبقى لنا من الروح وهي ترسم صيهل أحزاننا في معراجها إلى الذاكرة، كيف للشعر وجنياته الساحرة ألا يمور في لحظتنا ألا يكون ضجيجاً، أن يكون نشيجاً وحسب ذات نبوءة، إذن فلن يظل النهر عطشاً كما البحر وما زالت مرايا الخصب تحت شمس واضحة، تومئ للكلام بأن ينهض عشية كل غياب مستحيل، ليلون الأفق بقوس قزح الله، ولن يكون الشعر سؤالاً لأزمنة كثر فيها الضجيج واختلّت خطا مفرداتها، والتوَتْ عقارب ساعاتها، سيكون نداء الأحياء من ظلوا شهود الخارطة، يرسمون بالكلمات وعلى متسع تلك الرؤيا بالذات نشيد الحياة، رغم نشيد آخر لا لون له، من ظلوا أبداً صورة الحياة لتقوم على طريقتها، منحة لمن ورثوا اللغة وحريق الأصابع وأنشدوا في رابعة الحلم: ويكتبنا الشعر وتعيشنا القصائد وتتنفسنا الكلمات، فمن الأكثر جدارة بالحياة؟!.