كلمة البعث

دي ميستورا بين الأدلّة النقلية والأدلّة العقلية

كثيرون، ومن مختلف الأطراف، الذين لم يتوقعوا أن توافق سورية على طرح دي ميستورا المفاجىء والهادئ، ذلك لاعتبارات عديدة منها مايتصل بطبيعة الطرح، ومنها مايتصل بالمشكلة نفسها من حيث تداخل المصالح وتعدد المجموعات الإرهابية المتوحّشة، وتنوع الوصاية على المعارضة الهشّة.
فقد تقدم ستيفان دي ميستورا الدبلوماسي الإيطالي الجنسية السويدي المولد، الهادئ والحذر بطبعه، وهذا ماعرف عنه أثناء عمله في الخارجية الإيطالية، وفي وكالات الأمم المتحدة، بمبادرة لم تتضح بنيتها الأساسية والتفصيلية بعد، وهي مقاربات أوليّة لمفهوم «المنطقة المجمّدة» تعتمد الاستنباط من جهة، والغموض من جهة أخرى. مايؤهلها لمواجهة تحديات عديدة لأزمة مركّبة ومعقّدة، ولاسيّما أنها لا تحتاج منذ البداية إلى “اتفاق مكتوب”، وهذا مناسب لشرذمة مكوّنات الطرف الآخر وتناقضاته بل تناحراته.
لم تصدق تلك التوقّعات. قبِلَ الرئيس الأسد المبادرة، وعبّر سيادته بعد اطلاعه على أهدافها عن «حرص الدولة على سلامة المدنيين في كلّ بقعة من الأرض السورية، وانطلاقاً من أهمية مدينة حلب، فالمبادرة جديرة بالدراسة والعمل عليها»، ولا شكّ أنّ في هذا تأكيداً للمأثور الشعبي «اللي بعمّر البلد هو اللي بخاف عليها» فمن يجهل أو ينكر أنّ أرض سورية كافة خلال 44 عاماً من عمر التصحيح المجيد ملأى بالعطاء والإنجازات: مدارس وجامعات، معامل وحقولاً، جسوراً ومشافي، ثقافة وطنية وعيشاً مشتركاً، فما الذي فعلته بهذا يد الإرهاب وداعموه؟
> الأدلة النقلية توضّح أن دي ميستورا سيتابع مهمته وبدءاً من «حلب أولاً»، بناء على أولوية «الحل السياسي»، وعلى ضمانات موافقة مجلس الأمن والأمم المتحدة، وعلى أنّ مهمته تختلف عن مهمة الفريق الدابي، وعنان، والإبراهيمي، ولاسيّما أنها أتت بعد صدور القرارين الأمميين 2170-2178 بعلاقتها العضوية في  ضرب الإرهابيين تحديداً وتجفيف منابع العمل و”العقل الإرهابي”.
> لكن الأدلة العقلية تبيّن – حرصاً على نجاح المبادرة وإحياءً للمسار السياسي- أن على الرجل التغلب أولاً على التحديات التالية:
-ينطوي مصطلح “التجميد” على لَبس لايفرّق بين الجندي الذي يدافع عن الدولة والشعب والمؤسسات الوطنية، وبين المسلّح “الإرهابي” الذي يعمل على تقويض الدولة الوطنية بمؤسساتها كافة، فهناك فرق واقعي كبير لا شك في الإحساس الوطني والإنساني.
– كل من يحمل السلاح في وجه الدولة مرتبط براعٍ إقليمي، ولن يتلقى أوامر وقف النار إلاّ منه، وهو بالمحصلة إرهابي جوّال لا التزام وطنياً ولا قانونياً ولا أخلاقياً لديه، فمن يستطيع الحصول على ضمانات منه؟!
– إن الحصول على هكذا ضمانات بات ينطلق من تنفيذ القرارين 2170-2178، مايعني القضاء على هذا الإرهابي أولاً، وليس إعطاءه هدنة أو «ضربة جزاء مجانية».
– لا يمكن أن تنجح مبادرة دي ميستورا إذا تناقضت مع القرارين  المذكورين، وإذا توافقت معهما، فهذا سيفضي إلى وضع السعودية وتركيا وقطر ولاحقاً الأردن تحت الفصل السابع، ولاسيما تركيا التي تجد معضلة كبرى في إغلاق حدودها أمام تدفق السلاح والمسلحين.
– عندئذ ٍستجد الإدارة الأمريكية نفسها أمام صدام ضروري مع تركيا أردوغان الذي سيكون مضطراً للانتقال إلى الضفة الأخرى حين يصطدم أمامه تنظيما العدالة والتنمية وداعش، ما سيؤدي إلى انهيار استراتيجي لأردوغان ليلحق به ابن سعود وآل ثاني. وبكل الأحوال هذا ماسيحصل مع هذه المبادرة أو بدونها.
إذن: فالأدلة النقليّة، والأدلة العقليّة تؤكد سوية أنه مضى الزمن الذي يُراهن فيه على نجاح الحل السياسي دون تنفيذ القرارين المذكورين، أي ضرب الإرهاب أولاً وتجفيف منابعه. وهنا سيكون الطرف المقابل للدولة الوطنية في أي مبادرة طرفاً لا نوعياً عصيّاً على التصنيف «معارض خارجي، مسلح جوّال» بسبب تنوّع وتعدد الوصاية الإقليمية والدولية عليه، وبالنتيجة ستؤكّد الأيام عمق رؤية الرئيس الأسد ومصداقيتها وقوّتها، وأن هناك حقيقة مؤامرة، وليس «نظرية المؤامرة».
د. عبد اللطيف عمران