ثقافة

مدحة عكاش … الغائب – الحاضر

لا يختلف اثنان على ريادة الأستاذ مدحة عكاش، رحمه الله ( 1923 – 2011)، وتربعه على عرش الصحافة الأدبية، عبر ثقافتيه، على مدى نصف قرن من الزمن، وتزيد..فمنذ العام 1958 حمل على عاتقه مسؤولية جسيمة تعجز مؤسسات عن النهوض بها، وذلك لتشعبها وتنوعها وبعد مراميها. ولعله – من خلال ذلك – عدّ واحداً من روّاد الفكر العربي المعاصر في سورية، لا بفضل ما قدّمه من آراء و نظريات وأدب، وإنما بفضل مساعيه النبيلة وجهوده الجليلة في رفد الحركة الثقافية بالمواهب المبدعة، ودعم المبدعين وتشجعيهم… إضافة لتميزه في تذوق الشعر ونقده، فكثيرون أولئك الشعراء الذين كانوا يطلبون نصحه في هذا البيت، وذاك المعنى، وتلك القافية… وقد تخرج في مدرسته عدد من الشعراء باتوا أعلاماً في الشعر. وهو – إلى ذلك – يكرس جهوده واهتماماته لتكريم القامات الثقافية والشخصيات الفكرية والأدبية… ويخصص في (ثقافته) الشهرية أو الأسبوعية ملفات للحياة الأدبية وإبداعاتها إن في الأقطار العربية، أو المحافظات السورية… كما كان – رحمه الله – يرعى الموهوبين من الأدباء ويخص نتاجاتهم بمساحات واسعة في ثقافتيه، ويسجل له تلك الإصدارات القيّمة والنوعية التي حملت على مدى سنوات عنوان (كتاب الثقافة) وأيضاً المسابقات الأدبية التي كان يطرحها ويعلن عنها ويتوج الفائزين بها.
كل ذلك، وغيره، بجهد فردي مشفوع بالمثابرة والعمل الدؤوب الذي كان موضع اعتزاز وتقدير لكل من عرفه ووقف عليه، ولا سيما في منتداه الثقافي (شارع البرازيل) الذي كان يجمع خيرة المثقفين بأطيافهم ومشاربهم المختلفة…يتبادلون الأفكار والآراء والذكريات وفنون الشعر والنثر منتشين بأريج الياسمين وزهر الليمون والكبّاد والشمشير الذي يعبق به المكان وينشر عبيره ممزوجاً بالطرائف والحكايات والأحداث…
في منتصف سبعينيات القرن الماضي تعرفت في مقر (الثقافة) إلى هذه القامة السامقة، وكان كل شيء في مكتبه يحكي ويحاكي الشموخ والعزة والكبرياء بدءاً من ذلك التمثال النصفي لشخصه الكريم مروراً بآلاف الكتب والمجلات، وليس انتهاء بأكداس الأوراق والمخطوطات المتوضعة هنا وهناك… وبقيت – حتى تاريخ رحيله – أزوره وأسأله وأستشيره، وقد أفدت منه كثيراً فيما وضعت من المؤلفات أو كتبت من المقالات والدراسات.
مدحة عكاش بحق راوية العصر، وأصمعي القرن العشرين، وديوان العرب… إنه ذاكرة وقادة تقدح زنادها لتنشر تراثنا الأصيل في قرائح شعرائنا المعاصرين فيستمدون منها القوة ويستلهمون الإبداع.
صفات جمة وخصال فريدة جعلت هذا الرجل موضع افتخار واعتزاز الكثيرين فتبارت المهرجانات والمحافل لتكريمه وتقديره ولهجت الألسن بمدحه والثناء عليه: راعني الأستاذ مدحة بنشاطه وحيويته، أما روايته الشعر العربي، وسعة اطلاعه فحدث ولا حرج. ينتقل بك من روض إلى روض، مسترسلاً لا يتوقف، ثم إنه شاعر ملء إهابه. بتلك الكلمات وصفه الراحل د. شاكر الفحام
وقد جسد خضر الحمصي هذه المعاني شعراً فقال:
جاز الحدود بلاغة ورصانـة
فسرت فرائده بكــــــل مكـــــان
حمل التراث بفكره وضميره
متخطياً إطلالــــة البركـــــــــــــان
اقتطف، أخيراً، مقطعاً من مقدمته، رحمه الله، لما اختار من شعر بدوي الجبل، ونشره تحت عنوان (شعراؤنا المعاصرون) في العام 1968 لما له من أهمية تؤكد (الريادة) التي أشرنا إليها بدءاً:
ليست هذه المقدمة دراسة، وليست تعريفاً بالبدوي، وإنما هي لمسات متواضعة على بعض جوانب هذه الحياة الكبيرة مما لابد من ذكره قبل المختارات. ولعلي قد وفقت كما أريد، أو لبعض ما أريد، فلا أحب إلى نفوس الناس من أن يجدوا بين أيديهم اليوم هذه المختارات آملين أن يجدوا بعدها ديوان الشاعر كاملاً.
غسان كلاس