ثقافة

يعـقـوب الـشـدراوي: رائـد المـسـرح التجريبي العربي

لم يترك يعقوب الشدراوي أديباً إلا وولج بحر أدبه بحثاً عن المرجان. والمسرح بالنسبة إليه انعكاس للحياة لكنه حياة مغايرة بعض الشيء، فالحياة على المسرح تنتصر دائماً على الموت. وهكذا فإنه برحيل المخرج والممثل والكاتب الشدراوي تكون صفحة مشرقة من صفحات المسرح اللبناني والعربي قد طويت. فالراحل هو  من رعيل جرّب وغامر ، راهن على الفن كوسيلة للتغيير المجتمعي المبتغي، فلا يمكن فصل يعقوب الشدراوي عن زمنه السياسي بفكره اليساري الانفتاحي المتسامح، وحسبه التجريبي وجدّه الأكاديمي. فهو أحد أكثر المخرجين اللبنانيين الذين جذبتهم النصوص الأدبية، اقتبس وأعاد كتابة ما اختاره، قالباً إياه رأساً على عقب لعلمه أن النص يولد ميتاً ولا ينتعش إلا على خشبة المسرح.
يعقوب الشدراوي المولود في لبنان عام 1934، هو أحد الرموز البارزة في الحركة المسرحية العربية، لم يقتصر نشاطه على خشبات المسرح اللبناني فحسب بل تجاوزه إلى الأقطار العربية، مقدماً رؤية جديدة للفن المسرحي ومحققاً مشاريع فنية متميزة في المسرح والإذاعة والتلفزيون.
على مقاعد الدراسة ظهر باكراً ولعه بالمسرح وانبهاره بالخشبة والماكياج والأزياء، وفي واحدة من صالات تلك المدارس تأكد من أصالة شغفه بالمسرح الذي شكّل محور حياته فيما بعد، وذات يوم وزّع الأستاذ على التلاميذ أدواراً من مسرحية تتناول حياة يوسف بك كرم، لكنه نسي يعقوب، خرج الجميع من الصالة باستثناء الشدراوي الذي أكبّ على الدفتر الذي تركه الأستاذ وحفظ كل الحوارات التي لم تحظ بممثلين لها،
وفي اليوم التالي أدّاها، فذهل الأستاذ من عبقرية هذا الفتى وموهبته. وبعد التخرج من المرحلة الثانوية عام 1990، اختار الشدراوي السفر وكانت وجهته فنزويلا بدافع العمل وجمع مال يخوّله دراسة المسرح في لندن على نفقته الخاصة لكنه فشل في ذلك وعاد إلى لبنان ليعمل نهاراً ويعرف ما أتيح له من ثقافة التراث المسرحي العربي والعالمي ليلاً، كما تفرغ في العطل لإخراج عروض مسرحية في القرى حيث تولّى أبناؤها تمثيل الأدوار. من أعماله المسرحية  في تلك الفترة: “نخب العدو” و”لولا المحامي” و”مارد صور”
أما المسرحية التي عرضها في عينطورة لمناسبة انتقال السيدة العذراء، فشكلت محطة مفصلية في حياته، إذ نالت إعجاب أحد الأساقفة الذي أمّن له منحه لدراسة المسرح في إيطاليا ولكن لشهرين فقط . وساعده رجل دين آخر بتدبير منحة لدراسة المسرح في موسكو.
أدمن الشدراوي على عروض المسرح والباليه، وتخرج بعد 6 سنوات من معهد “غيتيس”  للفنون المسرحية في موسكو، وقد اختار لمشروع التخرج مسرحية “حكاية فاسكو” للأديب اللبناني جورج شحادة.
وبعد عودته إلى لبنان عام 1968. اقتحم الساحة الثقافية، بتقديم عروض مسرحية وتحقيق مشاريع فنية متميزة في المسرح والتلفزيون والإذاعة، بدأ الشدراوي مسيرته الإبداعية في فترة الستينيات حين دخلت الحركة المسرحية عصر تألقها في مصر ولبنان والعراق وسورية، وشهدت مسارح لبنان أعمالاً مسرحية متميزة وعلى الرغم من تداعيات الحرب اللبنانية، استعاد المسرح  اللبناني عافيته بعدها، وأصبح جزءاً من حياة الناس اليومية، وكان الشدراوي في طليعة المسرحيين اللبنانيين الذين أعادو بناء صرح الثقافة التي دمّرت وباكورة أعماله كانت “أعرب ما يلي” 1970 وقد أثارت هذه المسرحية ضجة كبيرة، شهدت إقبالاً غير مسبوق وقد كُتِب عنها يومذاك مقاله بعنوان “اليوم وُلِدَ المسرح اللبناني”.
ثم جاءت مسرحيته الثانية (المهرّج) التي أصبحت حديث الصالونات الأدبية والثقافية والسياسية. وأعقبت مسرحية المهرّجْ عروضاً متألقة بمعدل عمل في كل موسم: “سمك السلور”1971، “الأمير الأحمر” 1973، “رد أبو علي الأسمراني” 1974 و”الطرطور” 983 ، “موسم الهجرة إلى الشمال”، “مذكرات مجنون”، وغيرها بالإضافة إلى مشاركته في إخراج العروض في مهرجانات بعلبك.
في العام 1992، عاد إلى الخشبة بعد انقطاع دام تسع سنوات عبر مسرحية “يا اسكندرية بحرك عجائب”.
يُشار إلى أن الشدراوي كان دائماً في حالة بحث عن النص المحلي الجيد، فقد ركّز على جيران خليل جبران في “جبران والقاعدة” وميخائيل نعيمة في “سبعون” ومارون عبود في “الأمير الأحمر” والطيب صالح في “موسم الهجرة إلى الشمال”. وبذلك كان المخرج اللبناني الذي حمل الأدب إلى الخشبة، واجتهد على مسرحته في قوالب تجمع بين التجريبية والأكاديمية الصارمة.
كان الشدراوي في كل مسرحياته يخلق توازناً بين السخرية والإضحاك من جهة وبين الإيلام ووضع الإصبع على الجرح من جهة أخرى، فمن طبيعته أن “يخربط” النص الذي يقع بين يديه، ويعيد تركيبه، وأحياناً تكوينه بما يتوافق مع رؤيته التشكيلية، ومع موقفه الفكري الحياتي/من الأشياء والعلاقات وكذلك مع تساؤلاته التي يطرحها على نفسه، وعلى النصوص كلها، وخصوصاً على الجمهور، لذلك تميزت مسرحياته من حيث علاقتها بالجمهور، فهي لا تدعو هذا الأخير إلى  تبني فكرة محددة، بل هي تحثّه على التفكير في ما يُقّدم أمامه من عروض.
لا يمكن اعتبار مسرح الشدراوي واقعياً ولا اجتماعياً ولا عبثياً ولا فكرياً ولا حتى رومانسياً، بل هو كل ذلك وغير ذلك في آن واحد. لم يقتصر نشاطه على خشبة المسرح اللبناني فحسب، بل تجاوزه إلى الأقطار العربية مقدّماً رؤية جديدة للفن المسرحي فقد كان الشدراوي يعي أن المسرح فن مستجد في العالم العربي، وأن جهداً كبيراً يفترض أن يبذل لتقريبه من ذائقة الناس فقد اعتبر الشدراوي أنه لا يمكن الكلام عن “مدماك عربي كامل في عمارة المسرح العالمي شبيه بتلك المداميك التي أضافتها بعض الشعوب والحضارات الأخرى، لكن هناك بداية جيدة وحجارة رصفت. وإن لم تكتمل بفعل عوامل تُسأل عنها الأزمة العربية العامة”.
” المسرح هو سيرك الحياة ندخله ثم نغادره، ولكن السيرك مستمر في الواقع وعلى الخشبة، إنما على تحولات تتلاءم مع العصر وتقلباته” يقول الشدراوي الذي أجبره المرض على الرحيل والترجل عن خشبة المسرح. إنه آخر الطليعيين الكبار، حمل حضارة التسامح إلى منفاه السرمدي. وصيته لمبدعي الغد: لا تغفروا لأشباح الظلام. اجعلوا مسارحكم ساحة للمحبة.
إبراهيــم أحمــــد