ثقافة

بعد صدور كتابها “أوراق من سنوات الحرب على سورية” د.ناديا خوست: كثير من أدبائنا لا علاقة لهم بالواقع ومعظمهم مازال يغرد خارج السرب

لم يخطر ببالها يوماً أن تكتب مثل هذه الأوراق، مع أنها عاشت منذ طفولتها وسط الصراع العربي- الإسرائيلي الذي كان محور عملها الأدبيّ، وقد بدا لها أن الحرب ستكون فقط لتحرير الأرض المحتلة أو لردّ عدوان إسرائيلي لا في قلب المدن السورية، لذلك كان إصرارها على أن يرى كتابها “أوراق من سنوات الحرب على سورية” النور، وتؤكد د.ناديا خوست في حوار “البعث” معها أنها أرادت أن تقول من خلاله أشياء كثيرة، في مقدمتها أن سورية عاشت حرباً عالمية لا مثيل لها ولا سابق، وقد خلَّفت وما تزال تخلِّف آثاراً خطيرة على الشعب السوري، وأننا كسوريين لم نكن وحدنا، ومعاناتنا عاشها كل المفكرين والإعلاميين والباحثين الأوروبيين الشرفاء والنزيهين المدركين أن مصير سورية والمقاومة يقرران – إلى حدٍّ كبير- مصيرهم ومصير كل شريف في هذا العالم لإيمانهم أن ما يحدث في سورية هو حرب عالمية، مشيرة إلى أن الإعلام العالميّ لعب دوراً كبيراً في هذه الحرب وقد كذب كثيراً على شعوبه حتى تقبَّل تدخّله، منوِّهة إلى أن الإعلاميين والباحثين الغربيين النزيهين كانوا يكشفون هذه الأكاذيب ويوضحون الأمر لتبدو د.خوست في هذا الكتاب متفائلة عندما تؤكد أن الحرب ستنتهي وسيرجع الهدوء إلى سورية، خاصة وأن من أشعل الحرب اكتشف أن خراب سورية هو خراب عالميّ، وأن الغول الذي أطلقه الغرب علينا يصعب التحكّم به وسيرتد على من صنعه.
وتعترف خوست أنها وثَّقت في هذا الكتاب أوجاع الشعب السوريّ والأحداث من وجهة نظرها، وهو ليس كتاباً سياسيا لقناعتها أن السياسة كانت وما زالت تدخل في كلّ نشاط إنسانيّ مهما كان بعيداً عنها، ولذلك تراه كتاباً إعلاميّاً إنسانيّاً سياسيّاً.
وحين سألتُ د.خوست عن الحيادية والموضوعية التي يجب أن يتمتع بها الكاتب في توثيقه للأحداث أجابت بلا تردد: “لا أحب ولا أحترم الموضوعية التي يتحدث عنها الغرب، فأية حيادية حين يتقاتل الشر مع الخير؟” مبينة أنها لا يمكن أن تكون محايدة، أما الموضوعية – والعرب من هواتها- فلا تعني لها سوى الحقيقة فقط، أما أن تعني ألا تنحاز فهذه – برأيها- كذبة كبيرة لأنه لا توجد كلمة في العالم غير منحازة، والغريب كما تقول أننا نفتخر ونحن ضحايا بأننا موضوعيون ومحايدون، وكذلك تستغرب من بعض الصحف والقنوات التلفزيونية التي ساوت – تحت شعار الموضوعية – بين الخير والشر، ونقلت ما يقوله (الطرفان) وسخَّرت الكلمة في الحرب وتاجرت بها، فبعضهم باعها وبعضهم أجَّرها، وبعضهم خانها، وبعضهم الآخر باع واشترى فيها، وقد صرنا أمّاً وأباً للحياد بدلاً من الانحياز الفكري والروحي للمظلومين، وتأسف لأنه وتحت شعار الحياد أعلنت كاتبات سوريات أنهن سجّلن شهادات ضحايا (موالين) و(معارضين) دون أن يذكرن أن العصابات هي التي اغتصبت الفتيات.

غياب المثقفين السوريين
ولأنها تؤمن أن المنعطفات الكبرى والأحداث العاصفة تُمتَحَن فيها العقول والنفوس والأخلاق تبيّن أنه يوم سقط الاتحاد السوفييتي سقط معه كثير من المثقفين والسياسيين العرب والسوريين، فكان الشعب البسيط أقدر منهم على فهم الكارثة.. ومن هنا لا تخفي أن المثقفين والكتّاب السوريين غابوا عن مواجهة الإرهاب، وبعضهم انتقل إلى الخيمة القطرية بعد أن أكلوا خبز سورية وشربوا ماءها ونالوا الخبرة والامتيازات في مؤسساتها، وقد أرسلتهم سورية في بعثات ودرّسهم الخبراء الروس في معاهد المسرح والموسيقي، ونشرت وزارة الثقافة واتحاد الكتّاب العرب وجامعة دمشق مؤلفاتهم، ونُثِرت عليهم المنح والإيفادات، ويُسّر لهم التنقل في العالم بتبادل الوفود الثقافية. ولذلك تندهش حين ترى زكريا تامر جالساً إلى مائدة قطر أمام علم الانتداب الفرنسي قرب برهان غليون وعلى صدره وسام الاستحقاق السوري واسمه على مدرسة في حمص مع أن المدارس لا تسمى بأسماء الأحياء، وفي جيبه راتب التقاعد من اتحاد الكتّاب العرب مع أنه مغترب في لندن منذ عقود.

روايات الوقائع المفترضة
وتؤكد د.خوست وهي التي لم تغب السياسة يوماً عن كتاباتها وكان الأدب في كثير من الأحيان حاملاً لها أنها أرادت أن تقول ان السياسة متصلة بعواطف وأوجاع وآلام الناس، وكل هذه الأمور شئنا أم أبينا مرتبطة مع بعضها، وقد أثبتت ذلك الحرب على سورية، لذلك كان كل ما يعنيها أن يضم الكتاب شهادة لبشر عاشوا فترة صعبة ومعقدة وقد كانوا عارفين بما يحدث وفاهمين للخيوط التي نسجت هذه الأوضاع.
وحول رأيها بما أنتجته الحرب من أعمال أدبية وفنية افتراضية في حين لجأت هي للكتابة التوثيقية وهي الكتابة الأصعب تبيّن د.خوست أن أي عمل روائيّ، قصصي، فنيّ يجب أولاً أن يستند إلى الوثائق الحقيقية، وكثيرا مما صدر من أعمال اعتمد على وقائع افتراضية تبدو غير مقبولة أو مبررة بالنسبة لخوست وهي تعلن رفضها – وقد أعلنته سابقاً- لأن تصدر المؤسسات المعنية أعمالاً أدبية تدّعي أنها تتحدث عن الأزمة وما هي إلا ثرثرة إنشائية فارغة لا جدوى منها في هذه الظروف الصعبة، موضحة أنها لكي تكتب رواية حقيقية عن الحرب في سورية فهي بحاجة لكمٍّ كبير من الوثائق ولمعرفة عميقة لدقائق الأحداث، لذلك ترفض د.خوست بشدّة تلك الروايات التي ولِدت بوقائع مفترضة ومقترحة من أصحابها وتراها روايات لا قيمة لها، مشيرة إلى أن كل عمل أدبيّ يتناول فترة تاريخية بشكل شخصيّ دون الاستناد فيه لوثيقة لا قيمة له، وهذا ما يجعل الأدب عندنا بعيداً عن الناس وحياتهم، في حين أن روايات أدبية عظيمة ظهرت في روسيا وفرنسا على سبيل المثال مستندة إلى الواقع الحي والوثيقة.
وتندهش د.خوست من وجود أدباء قادرين اليوم على إضاعة وقت وجهد الناس بروايات رومانسية، في حين أن الدماء تُراق في الشوارع السورية، وهنا لا تنكر خوست حقّ الكاتب في الإنشاء والتعبير في رواياته وكتاباته إلا أن كل ذلك يجب أن يكون على أساس من المعرفة والحقيقة، وتأسف – وهي التي كانت في فترة من الفترات عضواً في لجان القراءة في اتحاد الكتّاب العرب- أن معظم ما يُكتَب ما هو إلا ثرثرة كلامية إنشائية واليوم لم يعد مقبولاً ذلك، ولذلك تقول: “يا زملائي الأدباء، كفى إنشاء لأن الأدب اليوم يجب أن يقدم لنا المعرفة لا الصيغ الإنشائية الفارغة وعواطف في الهواء”.
وكما في الأزمات والحروب هناك تجار قوت، في المقابل هناك تجار فكر وكلام، ومشروع هؤلاء – برأي د.خوست- أخطر لأن من يتاجر بقوت الناس يمكن محاكمته، بينما لا توجد قوانين تحاكم تجار الفكر، مبينة أن البعض أراد أن يحقق شهرته على حساب أوجاع الناس وآلامهم التي يجب عدم الاقتراب منها والتعبير عنها إلا لمن يتمتع بالكفاءة الكبيرة.

الترميز في تناول الأزمة هروب
وما بين الطريقة المباشرة في تناول الأزمة والطريقة غير المباشرة تبيّن د.خوست أن لجوء البعض إلى الرموز في تناول الأزمة هو هروب وخوف من إعلان موقف، وهو تخفٍّ حيث يجب الوضوح، مشيرة إلى أنه في كل تاريخ الأدب العالميّ كانت هناك حاجة ليعلن الكاتب موقفه من مسألة كبرى، لذلك فإن الكتّاب السوريين مطالبون اليوم بإعلان مواقفهم في ظل الأزمة السورية، وهي قضية كبرى لا أحد يشكك في خطورتها، وتتساءل د.خوست: “لا أدري كيف سيتحدث كاتب عبر الرموز والإيحاء عن شاب سوريّ باع كليته مقابل الحصول على المال في لبنان، وكيف ستتحدث كاتبة سورية بشكل رمزيّ عن النساء السوريات الموجودات في المخيمات واللواتي تعرّضن للابتزاز والاغتصاب، ولا أدري كيف سيتم التناول بالرموز عدد الشهداء الذين سقطوا في هذه الحرب وكيف ستكفكف الرموز دموع أمهات الشهداء اللواتي فقدنَ أبناءهن فيها، وأي رمز سيلجأ إليه الكاتب اليوم ليتحدث عن كل الخراب والدمار الذي تعرضت له سورية؟” ولا تعتقد خوست أن القارئ سيحترم هذا الكاتب الذي يكتب مختبئاً وراء رموزه وكل ما يحيط به موحش بوضوحه، لذلك تؤكد أن القارئ اليوم في سورية وخارج سورية بحاجة للحقيقة كما هي شهادات حيّة تُقدَّم للعالم كله، مشيرة إلى أن الكتابة الإنشائية التي ما زال بعض كتّابنا مغرومين بها لا مكان ولا قيمة لها لدى الرأي العام الغربي الذي يجب أن نتوجه إليه اليوم وهو لا يلتفت إلا للكتابات المدعمة بالوقائع والوثائق، وهذا ما حرصت خوست على فعله في كتاباتها التي توجهت بها للغرب ونشرتها في مواقعه باللغة الإنكليزية والفرنسية، مشيرة إلى أن إحدى مقالاتها التي نشرتها في أحد المواقع الغربية تناقلها نحو أحد عشر موقعاً غربياً لأنها لم تعتمد الإنشاء في كتابتها بل قدمت فيها مجموعة من الحقائق المدعمة بالشهادات والوثائق.. وتبيّن د.خوست أن موضة الكتابة الإنشائية التي كانت موجودة قبل نحو مئة سنة في فرنسا قد اختفت اليوم وباتت غير مقبولة، وتستغرب أن بعض كتّابنا ما زالوا يستخدمونها في ظل أتعس الظروف التي يمر بها بلدنا، كما تستغرب من الأسلوب الرومانسي الذي يعتمده البعض، في حين أن سورية باتت مليئة بالمهجّرين والمخطوفين والشهداء، مؤكدة أن بعض أدبائنا لا علاقة لهم بالواقع، ولذلك فإن معظمهم لا زال يغرد خارج السرب بكتاباته المفترضة الرومانسية، في حين أن الدموع لا تجفّ في عيون أمهاتنا في هذه الحرب التي يجب أن يكون فيها الكاتب واضحاً ومباشراً في كتاباته وفي مواقفه، وهذا لا يتم إلا إذا توفرت الشجاعة لدى هذا الكاتب، وتأسف لأن قطاعا من مثقفينا لم يكن لهم موقف واضح ولم يتحلوا بالشجاعة، ومعظمهم كانوا يقفون في وسط الدائرة بانتظار اللحظة الحاسمة لتحديد اتجاهاتهم.. إذاً من يريد أن يكتب بشكل صحيح عن الحرب في سورية بالإضافة إلى تمتعه بالشجاعة والموقف الواضح عليه أن يمتلك الكفاءة والقدرة على البحث، مبيّنة أنها ككاتبة لم تهتم بيوم من الأيام بالفكر الوهابي وسيد قطب، ولم تقرأ الكتب الكثيرة التي أصدرها باحثون مصريون مهمون عن الإخوان (المسلمين) ولم تطلع على مذكرات حسن البنّا، إلا أن ما يحدث في سورية جعلها تقرأ وتهتم بكل ما سبق لتفهم ما يحدث، فعدم المعرفة – برأيها- بات أمراً غير مقبول لأن الانترنت والتكنولوجيا الحديثة ألغت صعوبة ذلك، ولهذا استطاعت أن تقرأ ما تحتاج إليه لتستطيع ملامسة المسائل الهامة في الحرب على سورية، ولم يكن من الممكن برأيها أن تكتب عن أحداث سورية دون أن تفهم الأرضية التاريخية لمن يمكن أن يفجر نفسه ليقتل الناس لأنه من غير الممكن التصديق بأن هذا الانتحاري كان قادراً على فعل ذلك لمجرد تناوله حبة كبتاغون وأنه لم يفعل ذلك إلا بعد تعرضه لعملية غسيل دماغ.
وتختتم د. ناديا خوست حوارها معنا وهي التي أهدت كتابها إلى الشعب السوري الذي واجه حرباً وحشية عالمية على روحه وكرامته ووجدانه وقمحه وآثاره وبيوته ومعامله ومزارعه، وإلى الجيش السوري الذي دافع عن الوطن، وإلى روسيا وإيران والصين ملاحظة أن الباحثين والدارسين والمبدعين قصروا في كشف الفكر التكفيري..
وتتساءل: ألا يفترض أن تنتج أزمة كبيرة وحرب مثل الحرب على سورية كمّا كبيرا من الدراسات والأبحاث لشرح حقائق وتفاصيل ما يحدث، فأين باحثو الوزارات المعنية، وأين المثقفون السوريون المؤرخون، ماذا يُنتج هؤلاء في الوقت الذي صدر فيه كمّ كبير من الكتب في الغرب يوضح حقيقة ما يجري ويشرح ما يدور في سورية ويسلط الضوء على كل الأطراف الموجودة في ساحة القتال، وبعض الكتب قدمت معلومات عن قادة ومنظمي المجموعات المسلحة الإرهابية؟!..
والغريب برأيها أن مؤسساتنا المعنية أهملت هذه الكتب، في حين أنه كان من المفترض الاطلاع عليها طالما هي في خدمة قضيتنا ولا سيما تلك التي تتحدث عن هؤلاء التكفيريين والجهاديين، مبينة أنها متحفظة على عدد كبير مما نصدره، حيث من المعيب -برأيها- إهدار الوقت والجهد في إصدار منشورات لا قيمة لها، وما زال أصحابها يكتبون وكأن شيئاً لم يحدث في سورية.

أمينة عباس