ثقافة

“أدب الرحلات” مخزون معرفي وثقافي

استأثر أدب الرحلات بالاهتمام قديماً وحديثاً، وعُني به أعلام بارزون عبر مراحل التاريخ ماضياً وحاضراً، حيث تحدثوا فيه عن مشاهداتهم والأماكن التي مرّوا بها، وزيارة المعالم والآثار والمساجد والمكتبات وما تحويه من المخطوطات ووصفها والتعريف بها وزيارة المعالم والمواضع التاريخية.
أدب الرحلات فن متميز ومعلم بارز من معالم الثقافة والمعرفة، فهو كحديقة غنّاء بها ثمار يانعة ولا تخلو من الأشواك ولقد قيل:
في الذكريات وفي الترحال أشجان        فيها من العلم والعرفان ألوان
أطوف حول زوايا الأرض أدرس                    أحوال الشعوب وما صاروا وما كتبوا
نشط أدب الرحلات أساساً على أيدي الجغرافيين والمستكشفين الذين اهتموا بتسجيل كل ما تقع عليه عيونهم أو يصل إلى آذانهم حتى ولو كان خارج نطاق المعقول، ويدخل في باب الخرافة. بالإضافة إلى تسجيل رحلات الرحالة، هناك نوع آخر من أدب الرحلات هو القصص الخيالية الشعبية مثل: سندباد الذي يُعد رمزاً للرحالة المدمن للرحلة، والقصص الأدبية مثل: قصة ابن طفيل عن حي بن يقظان، والملاحم الشعرية والأدبية الكبرى في تاريخ الإنسانية تعد كذلك من أدب الرحلات مثل: ملحمة الأوديسة الإغريقية، وملحمة جلجامش البابلية، وملحمة أبو زيد الهلالي العربية، وغيرها، لأن هذه الملاحم تنبني في جوهرها على حكاية رحلة يقوم بها البطل لتحقيق هدف معيّن، وقد تنبني تلك الرحلات الأسطورية على بعض الوقائع التاريخية أو الشخصيات الحقيقية في عصر ما، ثم يترك الشاعر لخياله العنان، ليخلق الملحمة التي هي خلاصة رؤية المجتمع لقضاياه الكبرى في مرحلة زمنية معينة.
عرف العرب أدب الرحلات منذ القدم، وكانت عنايتهم به عظيمة في سائر العصور. ولعل من أقدم نماذجه الذاتية اليعقوبي الذي توفي في نهاية القرن التاسع الميلادي بعد أن قام برحلات طويلة في أرمينيا وإيران والهند ومصر وبلاد المغرب. وقد أفاد من هذه الرحلات فيما كتبه في التاريخ والجغرافيا، وذكر ذلك في مقدمة كتاب “البلدان”. أما الاصطخري فعاش في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي، واعتمد في تصنيف مؤلفيه كتاب “الأقاليم” و”المسالك والممالك” على رحلاته لطلب العلم والمعرفة في الآفاق الإسلامية وعلى ما نقله عن كتاب (صور الأقاليم) لأبي زيد البلخي، وقد وضع الاصطخري كتابه الأول بالخرائط. أما المسعودي الذي عاش في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي، فقد أقبل على السياحة لطلب العلم وجمع الحقائق الجغرافية والتاريخية، فطاف في البلدان وقام برحلات، وقد تحدث المسعودي عما لقيه من التجارب والمشاهدات خلال رحلاته في مؤلفات تاريخية ضخمة.
وكان أعظم ما وصل إلينا منها، كتاب “مروج الذهب ومعادن  الجوهر”، وهذا الكتاب يجمع بين التاريخ، والجغرافيا، والسياسة، والعمران، ومن الجغرافيين في القرن العاشر الميلادي، ابن حوقل البغدادي، والمقدسي الذي وضع كتاب “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم”.
ويعد القرن الثاني عشر الميلادي، وما يليه من أكثر القرون إنتاجاً لأدب الرحلات، وفي هذا الإطار، تأتي رحلة ابن جبير الأندلسي، والرحالة ابن بطوطة، وسمّى رحلته “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار”، وهو صورة شاملة دقيقة للعالم الإسلامي خلال القرن الثامن الهجري، وإبراز لجوانب مشرقة للحضارة الإسلامية، والإخاء الإسلامي بين شعوبه، بما لا نجده في المصادر التاريخية التقليدية.
وفي العصر الحديث، أصبح أدب الرحلات شكلاً فنياً داخلاً في الأدب، وليس دراسة تاريخية، وجغرافية كما كان من قبل، ومن نماذجه: “تخليص الابريز في تلخيص باريز” لرفاعة الطهطاوي الذي رافق البعثة التي أرسلها محمد علي للدراسة في فرنسا ليكون واعظاً، وتصوّر رحلة الطهطاوي انبهاره بمظاهر النهضة الأوروبية، ونقده لبعض عوائدهم في أسلوب أدبي، وكذلك أحمد فارس الشدياق، فهو مشهور بكتابه “الواسطة في أحوال مالطة”، وأيضاً رحلة أمين الريحاني التي أسماها الريحانيات.
إن ما يميز أسلوب أدب الرحلات هو تنوعه من السرد القصصي المشوّق إلى الحوار، والوصف، بما يقدمه الأديب من متعة ذهنية كبرى، فأدب الرحلات من أهم المصادر الجغرافية، والتاريخية، والاجتماعية، لأن الكاتب يستقي المعلومات، والحقائق من المشاهد الحية، الأمر الذي يجعل قراءته مفيدة، وممتعة، فالرحالة الأوائل كانوا أدباء، ومؤرخين، وجغرافيين، ومكتشفين، لذلك جاءت كتاباتهم سجلاً وافياً، ودقيقاً، وعميقاً عن انطباعاتهم عن حياة الشعوب التي زاروها، ومظاهر سلوكهم، وعاداتهم، ونظمهم الاجتماعية، والسياسية.
إبراهيم أحمد