ثقافة

في ندوة كاتب وموقف الشاعر صقر عليشي: تأثرتُ بالجميع ولم ينجُ أحد من شرّي

بقصائده المشرفة على السهل تعرّف محبّو الشعر إليه، وبمحليته وفطرته التي كتب الشعر من خلالهما شكلاً ومضموناً لفت الأنظار إليه.. وقد أكد الإعلاميّ عبد الرحمن الحلبي في ندوة برنامج “كاتب وموقف” التي خصّها مؤخراً للحديث عن تجربة الشاعر صقر عليشي بمشاركة الناقدين د.عاطف البطرس ود.هايل الطالب أن عليشي في مجموعته الثانية التي تلت مجموعته الأولى “قصائد مشرفة على السهل” ابتعد عن تلك المحلية التي شدّت الحلبي بشكل خاص وقد قال له الحلبي  حينها: “قتلتَ التدفّق الشعريّ الفطريّ بالخروج عنه” مبيناً أنها كانت مرحلة في تجربة عليشي التي امتدت على مدار ثلاثين عاماً.

لا فرق بين الشعر والنثر
ولأن ما من شاعر إلا وتأثر في بداياته بما قرأه وبما هو متوفر لديه بيّن الشاعر عليشي أنه تأثر بالشعر الجاهليّ والعباسيّ كثيراً، مشيراً إلى أنه قرأ ما يكفي من الأشعار فقرأ بشكل جيد المتنبي، وفيما بعد بدوي الجبل ونديم محمد وبدر شاكر السياب، مؤكداً أنه قرأ التجربة الشعرية العربية المعاصرة بمجملها وما توفر له من التجربة العالمية للوركا ونيرودا وغيرهما من الأسماء، وبيّن أنه كتب قصيدة النثر ولا يفرّق بين الشعر والنثر وهو يكتب قصيدة النثر والتفعيلة والشطرين بمعاييره الشخصية والخاصة، وبالتالي فالشعر برأيه يمكن أن يُكتَب بكلّ الأشكال، مشيراً إلى أنه بدأ بداية كلاسيكية ومن ثم كتب قصيدة النثر وأشكالاً فنية أخرى دون أن يفضِّل شكلاً على آخر، منوهاً  لمن يعتقد بموت الشعر إلى أن الإنسان كان دوماً بحاجة للشعر ولم تمر مرحلة في تاريخ  البشرية إلا وكان الشعر جزءاً منها.

القصيدة العفوية
أما الناقد د.هايل الطالب الذي ألّف كتاباً عن صقر عليشي وشعره فأشار إلى أن تجربة عليشي تضعنا أمام سؤالين: الأول عن قيمة هذه التجربة في مسار الشعر الحديث في سورية، والثاني عن ظلم النقد لبعض التجارب الشعرية، مبيناً أن تجربة عليشي تنتمي لشعر البداهة والعفوية الذي كان سائداً في أوروبا ومتداوَلاً عند نزار قباني وهو نمط ينحاز فيه الشاعر إلى المتلقي حيث تتخلى قصيدته عن الزخم البلاغيّ لتنحاز إلى الحياة اليومية بتفصيلاتها، وبالتالي رأى الطالب أن ملامح معينة تميز تجربة عليشي سواء اتفقنا أم اختلفنا عليها، ويأتي في مقدمتها عنصر التواصلية، أي أن شعره هو شعر قادر على التواصل مع الناس من خلال لغة وموضوعات تعني الناس عبر التعامل مع ما هو مستقر في أذهانهم ووجدانهم، وهو بهذا أسَّس لنمط شعريّ مكمل لما بدأه نزار قباني في القصيدة العفوية التي تأخذ المفردات الطازجة من الحياة اليومية، بعيداً عن المفردات المعجمية حيث يكون الشاعر مخلصاً إلى حدّ كبير لمفردات البيئة الريفية فيستمدّ من معجم الطبيعة مفرداته، وهذا يبدو واضحاً برأي الطالب من عناوين مجموعاته التي تنتمي إلى حقل دلاليّ واحد هو حقل الطبيعة مبتعداً عن فلسفة الأمور والاعتماد على الصورة الحسية التي تعتمد قوة الفكرة بدلاً من الصورة المترعة بالزخم البلاغيّ حيث الجملة الشعرية خالية من التزيين البلاغيّ لحساب قوة الفكرة، وهذا عكس ما تقوم عليه التجربة الحداثوية الجديدة التي تعتمد الزخم البلاغيّ.
أما على صعيد التشكيل الموسيقيّ فبيّن الطالب أن عليشي ينتمي إلى القصيدة الومضة، حتى الطويل منها قائم على جملة من الومضات وهي شعرية النَّفَس القصير الذي لا يحتمل كلام زائداً، وبالتالي فإن قصيدة عليشي تنتمي لسباق المسافات القصيرة وليس لها نَفَس طويل.
وعن السخرية وهي سمة من سمات شعراء البداهة عند عليشي فقد أوضح الطالب أن السخرية في شعره عنصر تواصليّ يحقق التواصل مع المتلقي وهي ومضة نراها خالية من أية صورة بلاغية فنشعر بجمالها وجماليتها دون تكلّف لتكون الصورة الشعرية لديها إحدى مكملات شعره النصي مع كسر المألوف للعلاقات المنطقية بين الكلمات على سبيل الاستعارة.
كتب كما يريد
أما د.عاطف البطرس فأوضح أن موضوعة العفوية في كتابة الشعر إشكالية أرّقت النقد العربيّ لأن العفوية مهما بدت جليّة إلا أن الشعر برأيه  في النهاية صنعة الشاعر، والماهر هو الذي يستطيع بإتقانه لصنعته أن يمدها بالعفوية، مبيناً باتجاه آخر أن عليشي من الشعراء القلائل الذين هضموا التجربة الشعرية العربية، ومن يتصفح أعماله يكتشف التناصات التي استمدها وأعاد صياغتها، كما نجد في شعره مرجعيات واضحة عكس ما نقرأه من الذين حطّموا القديم لأن عليشي برأيه ينتمي داخلياً إلى جذور الشعر العربيّ بأغصانه المشرعة على تجارب الشعر المعاصر، متوقفاً البطرس عند عدة قضايا تناولها عليشي في شعره ولا سيما صورة الريف التي لم تغب عن شعره وكتابته للشعر بأشكال مختلفة، وقد نجح في ذلك، مؤكداً أن مسألة الشكل والوزن والتفعيلة لم تشغل بال عليشي ليكتب وهو متحرر داخلياً من مسألة الشكل حيث موضوع القصيدة هو الذي يفرض ثوبها (شكلها) ومن هنا جاءت عفويته برأي د.البطرس حيث يكتب وهو متحرر من المسبقات.
وحول أسلوب الطفولية التي يكتب بها عليشي أوضح البطرس أن إطلاق صفة الطفولة على ما يكتبه عليشي ليس حكم قيمة، وهي صفة ملازمة للمستقبل عنده وليس للماضي، فعندما يتسم شاعر بالطفولة فهذا يعني برأيه أنه يفتح نوافذه للمستقبل، لذلك رأى البطرس أن عليشي شاعر فرح وتفاؤل، أما عن تأثره ببعض التجارب فأكد أننا لا نستطيع إلا أن نتلمس عدداً من الشعراء في تجربته القائمة على الهضم.. ومن هنا في شعره شيء من محمد الماغوط ونزار قباني و..و..ليبقى في النهاية هو صقر عليشي.
كما توقف البطرس عند مسألة هامة في تجربة عليشي وهي مسألة لم يتطرق إليها أحد من قبل وتكمن في صلات التقارب الشعرية مع الشاعر أبو القاسم الشابي من حيث الشبه المختلف بينهما في موقفهما من الحب والطبيعة، ولا يخفي د.البطرس أن أخطر ما يمكن أن يقع فيه شاعر من الشعراء هو الوقوع في مطبّ النثرية  في الشعر وهي ليست مما يُحمَد في القصيدة، مع قناعته أنه لا يمكن أن نجد شعراً صافياً حيث يتكئ الشعر دوماً إلى النثر، إلا أن عليشي بعفويته وطفولته يترك المجال كثيراً لسجيته التي يتسرب من خلالها بعض المفردات النثرية منوهاً في الوقت ذاته إلى خطورة أن تأخذ النثرية أقصى مداها في الإبداع حيث لا يجوز أن يخرج النص عن الرقابة الفنية وإلا خرج عن نسق الشعر الذي يجب ألا يخرج عنه الشاعر.
وختم الدكتور البطرس كلامه مبيناً أن عليشي تحرر من سلطة النموذج والإيديولوجيا ولم يأبه للنقاد -لا ترفعاً- فكتب كما يريد طالباً من الآخرين انتقاده إن أرادوا.
أمينة عباس