ثقافة

في كتابه الجديد “أوراق غير متناثرة” فرحان بلبل .. لنتعرف إلى الجمهور كي نأخذ بيده

منذ أواسط ستينيات القرن العشرين وحتى أوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين انشغل فرحان بلبل بالشأن الثقافيّ، وإذا به اتخذ المسرح طريقاً، فكتب له وعنه، وقام بالعمل المسرحيّ مخرجاً لمسرحياته وللمسرحيات التي كان يجدها تتلاقى وأهداف فرقة المسرح العماليّ في حمص التي ارتبط بها وكان مديرها ومخرجها وقد انتمى إلى اتحاد عمّال حمص وإلى الطبقة العاملة لأنه وجد نفسه مدافعاً عن المظلومين والفقراء، وحاول أن يكون قريباً من هؤلاء لا لكي يفرِّج عنهم بل لكي يحرضهم على تغيير واقعهم البائس، ولأنه سار في هذه الدرب وجد نفسه يحارب على عدة محاور، فاشتغل في النقد المسرحيّ وأرّخ للمسرح السوري وعالج أخطر المواضيع التي تبني مسرحنا العربي، وأجرى حوارات كثيرة حول المسرح والعديد من الأمور التي تهمّ الناس والمجتمع.. وفي غضون ذلك يؤكد بلبل في كتابه الصادر حديثاً عن وزارة الثقافة-الهيئة العامة السورية للكتاب “أوراق غير متناثرة” أنه وجد نفسه مدفوعاً إلى كتابة المقالات والأبحاث في الصحف والمجلات حول أمور المسرح والأدب عامةً، والثقافة والمجتمع، وكان الهدف الأعلى من كل ما كتبه الهدف نفسه الذي من أجله اتجه إلى المسرح، فما غايته في نهاية المطاف –كما يبيّن في هذا الكتاب- إلا أن يضع الثقافة والفنّ في خدمة أمّة انتسب إليها وعرف عيوبها وآفاتها وآمالها بمقدار ما يعتز بها، فكان يندفع في كل ما فعل اندفاع الذي لا يوقفه عن مهامه وواجباته عائق مهما بلغ من القسوة والصعوبة.. وفي كل هذا الاندفاع كان بين الحين والآخر يراجع ما فعله استعداداً لقفزة جديدة فيما يجب أن يفعله.. ومن هذه المراجعة أنه رجع إلى المقالات والأبحاث التي كتبها طوال ما يزيد عن 45 عاماً، مبيناً أن ما كان مرتبطاً بمناسبة انقضت حَذَفَه، وما كان مرتبطاً بالهدف الأعلى الذي وضعه لمجمل نشاطه الثقافيّ أبقاه حين وجده كأنه كتبه اليوم وكأنه سيكتبه غداً أو بعد سنوات.. ونتيجة لهذه المراجعة والانتقاء كان كتاب “أوراق غير متناثرة” موضحاً أن ما ورد فيه وإن كان قد كُتِب في أمور شتى وفي أوقات مختلفة ونُشِر في أماكن متعددة فإنه يبدو مترابطاً بعضه ببعض ارتباطاً وثيقاً ويتجه كله نحو ذلك الهدف الأعلى الذي ذكره.. ومن هنا جاءت تسمية هذا الكتاب، فهو أوراق متعددة لكنها ليست متناثرة لا يربط بينها رابط  مشيراً إلى أنه جعل ما ورد فيه تحت أربعة أقسام، القسم الأول في النقد المسرحيّ ويتناول جوانب حارّة من نشاطنا المسرحيّ وهمومه المؤرقة وعيوبه الجارحة وما رآه من طرق لتصحيحها، في حين يتناول في القسم الثاني النقد الأدبيّ فيبحث في قضايا أدبية عامّة ما تزال تشغل حيزاً حيوياً في نشاطنا الأدبيّ ويضمّ أيضاً دارسات لآثار أدبية بارزة، أما القسم الثالث فيخصصه للنقد الثقافي، مشيراً إلى أوجاعنا الثقافية التي تؤثر في ثقافة الأجيال والتي ما تزال حارّة وهامة، ليتابع في القسم الرابع في النقد الاجتماعيّ فيتناول أوجاعاً اجتماعية تبرز المفارقات الحياتية التي تدمر سكينتنا النفسية وترمينا في حومة الحرمان والجوع والتفاوت الطبقيّ الجارح، مبيناً بلبل أن هذه المقالات والأبحاث قبل هذا كله وبعده تضع يد القارئ على أهم التيارات الفكرية والسياسية التي شملت الناس خلال نصف قرن تقريباً، فهي تمدّ المؤرخ بالصورة الفكرية للفعل السياسيّ، كما تمدّ الناقد بالتيارات النقدية التي يستعين بها لتقويم الفنّ والأدب والحياة في الأمس واليوم، متمنياً من القارئ لهذا الكتاب أن يجد فيه ما يضيف إلى رؤيته الخاصة رؤية ثانية تكمل أو تناقض ما ارتآه، وهي في كلا الحالتين تثير لديه المناقشة والتفكير .

الجمهور أصل في كل عمل مسرحيّ
ونقتطف مما جاء في القسم الأول من الكتاب تحت عنوان “في النقد المسرحيّ” لأهميته حين يؤكد  بلبل أن كتّابنا المسرحيين ونقادنا ومخرجينا يركضون لاهثين محمومين وراء متابعة آخر تطورات المسرح الأوربي ومدارسه سواء في التأليف أم في الإخراج، وهذا الاتجاه برأيه يؤدي بشكل طبيعيّ إلى اعتبار جودة المسرحية بمقدار جرأة الكاتب على الاستفادة من تعقيدات وسائل الإخراج الحديثة وتقليده للتجارب الجديدة في المسرح العالمي المعاصر بحيث تبدو المسرحية في النهاية لعبة فيها من الأحاجي والألغاز أكثر مما فيها من العرض المتماسك لقضية إنسانية، فإذا أعرض الجمهور عن مشاهدة أو قراءة مسرح كهذا قالوا : شعب جاهل.. من هنا يبيّن بلبل أن الجمهور أصل في كل عمل مسرحيّ، ورضاه أو نفوره هو المقياس الحقيقيّ الذي يجب أن نقيس أعمالنا به، فإذا وجدناه ينفر من هذه الطرق الحديثة في الكتابة أو الإخراج فإن علينا أن نتجنبها، أو على أقل تقدير نعدلها، ولا يعتبر بلبل كلامه هذا دعوة إلى وقف التطور وعدم الاستفادة من تجارب الآخرين وإنما هي دعوة إلى التطور المدروس في فنّ ما زلنا نحبو على أرضه، مشيراً إلى أنه علينا أن نتعرف إلى الجمهور وأن نأخذ بيده حتى نضمن له ثقافة مسرحية متزنة وتطويراً واعياً، وحتى نضمن لهذا الفنّ تغلغله في ضمائر الناس، وفي الوقت نفسه يستفيد كتّابنا فائدة جليلة حين يبتعدون عن القفزات الحادّة غير الناضجة، تلك التي تجعل من متابعة التجديد واللهاث وراءه وسيلة سهلة للوقوع فريسة السطحية الفكرية، إذ ينشغل الكاتب بتجسيد الشكل المسرحيّ للمضمون الفكريّ والنفسيّ، وليس هذا ما يريده الجمهور، مؤكداً بلبل أن المشاهد العادي يريد عرضاً سهلاً بسيطاً فيه فنّ وذكاء وإيحاء وفهم عميق لواقعه الذي يعيشه، وهو يريد ذلك كله مصبوباً في شكل حيّ من أشكال الحياة الإنسانية لأنه يريد رؤية نفسه على المسرح في حالة الاستشراف الجماليّ للمستقبل، وحينما يقدم الكاتب والمخرج هذا العرض البسيط فإن المُشاهِد يمنحهما ثقته ومحبته ولن يسألهما عن الشكل الذي قدما به عملهما ولا عن آخر التجديدات والتطورات في المسرح العالميّ .
ويختتم بلبل هذا القسم قائلاً : “ما أجود كلمة جان ماري سيرو في الحديث الذي وجّهه إلى كتّاب المسرح العربي : “ومن الخطأ الفادح أن تبنوا مسارحكم على الطريقة الأوربية.. بوسعكم أنتم بالذات أن تساعدوا التجربة المسرحية على الخروج من الأشكال المتجمدة التي وصلت إليها في أوربا”.. مبيناً بلبل أن في هذه الكلمة إدراكاً واعياً لمأساة المسرح العربي حين يجري وراء التجديد المعقّد تاركاً وراءه مشاعر الشعب وحياته .
أمينة عباس