ثقافة

أول منزل

تبقى جبلة ببحرها وألفة ناسها وطبيعتها الخاصة بها دون الكون في كونها لا مدينة ولا قرية، تبقى تقاسمني حنيني لأول منزل ،إلا أنني لا أذكر مكانا أحب إلى قلبي وأقرب إلى وجداني بصدق صاف كبيت جدي لأبي ،الكائن في واحدة من قرى اللاذقية ،جنان معلقة بين السماء والأرض.
بيت واسع وكبير يشبه روح سكانه،بابه مفتوح دائما، خلف الباب ردهة كبيرة لا دهاليز تؤدي اليها، ففي هذه البيوت الكل محتشم باللباس ليلا نهارا حتى في الصيف، وكل القادمين إليه أخوة وأحبة وأولاد عم.
“أذكر عندما كان يأتي الحاصدون في موسم الحصاد من منطقة جسر الشغور، جالبين معهم الآلة التي تحصد الحنطة، لم أكن افهم لهجتهم حينها عندما كانوا يتبادلون وجدي عبارات السلام والشوق المحمولة من موسم حصاد لأخر يليه، والقبل الحاطة على الأكتاف وكأنها تشم رائحة الذكرى والعشرة الطيبة. لكنني كنت افهم أنهم من بقية العائلة وذلك من ترحيب الجد الحار بهم وجلوسهم إلى صدر الطعام معنا، أيد سمراء وأخرى بيضاء، اكف صغيرة وراحات ضخمة، تأكل من ذات الصحن مما قسمه الله للجميع”.
نوافذ الردهة واسعة وكبيرة تغمرها الشمس وتغفو أشعتها على أرضيتها الإسمنتية كأنها سجادة من نور،أما ارتفاع النوافذ  فهو على مستوى نظر الجالس متربعا فوق الأرض، فيرى ظلال الليمون تنصبب عطرا في شهر آب، تقع قطرات شذاها في القلب فتبرده.. ويرى لأوراق الحور الذهبية في شهر شباط تتهادى رويدا رويدا قبل أن تحط على الأرض بدعة لتسرد حكاية الفصول. وستبدأ دعوة العائدين من أعمال الزراعة الشاقة من النافذة، ليأخذوا قسط راحة مع كأس لبن رائب وبارد، قبل أن يتابعوا سيرهم إلى بيوتهم البعيدة قليلا.
في الردهة الكبيرة توزعت أماكن الجلوس بين كراسي من الخيزران والخشب، وقعدة عربية بمساند من قش تشعرك بأنك تسند ظهرك على جبل ألفة. حيث وضع التلفاز بإهمال في واحدة من زوايا الردهة، فمن يحتاجه بوجود الأحبة؟ جدٌ طيب وكريم يُخرج من جيبه السحري كل ما يفرح القلب “حبال من السكاكر، بسكويت مدور لم أذق ألذ منه في حياتي. جدة رؤوم تضحك عيونها عند رؤيتنا كما ستبكيان حين نغادر. جدة حكيمة تحفظ  الكثير من سور القرآن الكريم وأجمل الحكايات والسير “سورة يوسف، تغريبة بني هلال، قصة رجال الدعوة الشهيرة ولكن شعرا. كما أنها كانت بنظرة من عينيها تثني الأب عن غضبه من شقاوة احد الأولاد: “ما بتذكر حالك يا علي؟ الله يحميك كنت متلن وزيادة”. رحمك الله يا أم علي، كم نجتني نظرتك الرادعة لأبي من غضبه مني.
عمات طيبات وعم محب يريدنا أن نكبر سريعا لنساعده في زراعة الأرض، بعد أن توفي العم الثاني وهو في ريعان الرجولة.
ضيوف يكشون برد الشتاء بأحاديثهم القروية الطيبة، يرتشفون قهوتهم بمتعة ويثنون على من طحن البن، بينما رائحة لفائف سجائرهم القوية، تحمل عبق مزاحهم المؤنِس للقلوب: “وهلق يا بوعلي كيف بدك تظبطا لهي” وعينا من يتحدث تشيران إلى لعبة قام بها، حرك فيها “بحص” اللعب بما يضع حدا لنهاية اللعبة وخسارة “بوعلي للبرتية” .
لكن “بوعلي” ولأنه “بوعلي” كان يرضى أن يخسر بطيب خاطر أمام ضيفه، في الوقت الذي كان فيه عتاة لعبة المنقلة، يحسبون ألف حساب لكل نقلة بحص قبل أن يحركوها، فأبو علي يعرف كل “جونة” كم صار فيها عدد “البحص”، كما انه يربي في الزاوية “جونة” ممتلئة بـ”بحص” اللعب ستدور حجارتها “الصغيرة والملساء كراحة الطفل لكثرة ما ارتاحت بين اكفهم الخشنة فصقلتها حتى صارت حريرا صلبا”، المنقلة كلها دورة كاملة قبل أن ينهي “الدق” بوضعه لآخر بحصة في الجونة الأم. ونادرا ما كان متحديه يستطيع بعد نهاية اللعبة أن يقنعه بإعادة اللعبة، من باب أن الفوز كان حظا. فيرد أبو علي: لا يوجد حظ في الدنيا، يوجد عقل وعاقل ومعقول. ثم ينظر أبو علي إلى جهة المنقلة الخاصة بالخصم فيضحك وهو يقول له: وين “بحصاتك” يا محترم ؟ شايف “ايدك” فاضيه. تلك تفاصيل لا زالت تحيا معي وكأنها ابنة يومها: رائحة التراب والليمون توقظ في البال أجمل الذكريات.
في الحقيقة تبدأ تلك الرائحة الفريدة بالتغلغل في ثنايا الروح من اللحظة التي كان الوالد يفاجئنا بها بأننا غدا سنسافر إلى القرية بعد أن ضَبتّ المدارس حقائبها ورحلت إلى بلاد الشتاء في أماكن أخرى. كان يقولها وهو يدرك كم تفرحنا، ينظر إلينا ويقترب قليلا بما يبقيه محافظا على هيبته كوالد رحيم ثم يبتسم: “عالضيعة”.
تقوم الدنيا ولا تقعد، وأخيرا سنعود للحياة الحقيقية، السباحة في الأنهار وتسلق الأشجار، الركض في الحواكير التي ارتجلت سريعا لتصير أجمل ملعب كرة قدم في العالم، العصافير التي سأربيها ووو أي سحر .. أي سحر.
“الآن أتساءل: لماذا كل تلك البهجة التي كانت تطير من أعيننا النوم قبل يوم السفر لمجرد فكرة العودة إلى القرية كل صيف، ألهذه الدرجة لم نكن كأطفال سعداء بإقامتنا في العاصمة بسبب عمل الوالد، ربما لأن شوارعها كانت أبدا مزدحمة ولا خضار فيها إلا تلك الحدائق التي لا تشبه بأي شكل عفوية القرية.
هذا الشعور الذي يعتريني الآن كلما يممت وجهي صوب قريتي ورغم بهجته إلا انه كان يعني أنني كنت ولا أزلت أحيا في المكان المخالف لرغبتي وشغفي وفرحة طفولتي..
أسافر في أوقات متباعدة إليها، لكن ما يدهشني هو رد فعل أولادي وأنا اقترب منهم لأخبرهم أننا سنسافر غدا، تقفز بلقيس وتصفق مريم أما كرم الذي لم يزرها تقريبا، فيبدأ أيضا بإطلاق هتافات غير مفهومة تماما، لكن لمعان عينيه يترجم فرحته وينقل سروره الطفل بكل اللغات.
إنه الحنين الساري في عروقهم كما أبيهم وجدهم وجد جدهم، إنها الحياة تعود في الأبناء، إنها الذكرى لا تكل تتقد. أما قال أبو تمام:
كمْ منزل في الأرضِ يألفه الفتى
وحنينُه أبداً لأولِ منزلِ.
تمام علي بركات