ثقافة

هاروكي موراكامي.. روائي العزلة اليابانية

منذ أواسط القرن العشرين أطل الأدب الياباني على قراء الرواية في شتى أنحاء العالم خجولاً أول الأمر، قبل أن يزداد عدد قرائه وترجماته بالتدريج. فقد أخذت الروايات اليابانية وثقافة بلاد الشمس تنسل بهدوء وخفة إلى الأدب العربي، تماماً كطباع أهل تلك البلاد. فقد تعرّف القراء باللغة العربية إلى باسونا ري كوبانا أول ياباني حائز جائزة نوبل للآداب عام 1968 وعلى روائعه منها: “الجميلات النائمات” دار الآداب 2006. كما أنهم تعرّفوا إلى غيرهما من بعدهما، لتصل حركة الترجمة إلى هاروكي موراكامي الروائي الياباني الذي شغل العالم برواياته المحكمة البناء، وأسلوبه المتميز وقدرته الرصينة على الوصف واختيار أكثر الشخصيات انعزالية وحياة متزعزعة. فقد ولد هاروكي عام 1949 في مدينة كيوتو، ومنذ صغره كان متأثرا بالثقافة الغربية وبالتحديد الموسيقى والأدب الغربي. درس الدراما في جامعة وسيدا في طوكيو، حصل على عدة جوائز أدبية عالمية منها جائزة فرنك كافكا عن روايته “كافكا على الشاطئ” .كما صنفّته مجلة الغارديان على أنه أحد أبرز الروائيين في العالم، كما وصفت أعماله بسهولة الوصول إليها ولكنها معقدة وعميقة.
دخلت رواياته لائحة روائع الأدب العالمي من بابه العريض مثل رواية (الغابة النرويجية) 1987 و(كافكا على الشاطئ)2002، يروي صاحبها الحياة اليابانية منتقياً شخصياته بحكمة وتأن فغالبا ما يقع قارئ موراكامي على أبطال منعزلين، مبتعدين عن صخب الحياة وضوضائها، ومنغلقين على أنفسهم في قوقعة تختلف أشكالها ودرجات انغلاقها على نفسها وفق متطلبات السرد وتطور الأحداث. وتضاف رواية جديدة إلى مجموعة روايات موراكامي المترجمة إلى العربية وهي رواية “ما بعد الظلام” الصادرة عام 2004. وترتبط الرواية بعنوانها مباشرة سواء من حيث أحداثها أو زمن وقوعها، فقد أخذ الراوي على عاتقه أن يحصر سرده بفترة زمنية محددة، بين ما بعد الظلام وما قبل انبلاج الفجر، في هذه الساعات يجول القارئ مع راويه ليكتشف المدينة اليابانية وأهلها في الليل، ولا يمكن للقارئ أن يمتنع عن ملاحظة دقة وصف موراكامي وقدرته الهائلة على نقل تفاصيل الواقع بحذافيره وجزئياته ليتحول نصّه إلى ريشة حية ترسم المشهد وتلّون زواياه.
حرص موراكامي على إعلام القارئ بأنه ككاتب وراوٍ سيكون مجرد متفرج يشاهد الأحداث من بعيد أو من الخارج وينقلها بحذافيرها، فيقترب من أعالي سماء اليابان ليدخل رويدا رويدا أزمة المدينة وفنادقها: عيون ترصد المدينة من الجو، فالراوي خارجي شأنه في ذلك شأن القارئ ويكتفي بنقل الأحداث كما لو كان مجرد عدسة كاميرا، ومما يمنح الرواية طابع التشويق هو أن الراوي لا يقدّم تفاصيل من ماضي الشخصيات، بل يدعي جهله بها، ويطلع قارئه على ما يراه ويسمعه تاركاً للأحداث والجوازات مهمة الإيضاح وإيصال القارئ إلى لحظة انكشاف الحقائق، وهو يرفض رفضاً قاطعاً التدخل في مجريات الأحداث أو التأثير في تصرفات الشخصيات. ويعتمد الراوي في “ما بعد الظلام” تقنية تعدد زوايا السرد لدرجة يبدو أن السرد وكأنه تقرير علمي.
موراكامي، هو أحد الكتاب القلائل أيضاً، ممن حققّوا انتشاراً عربياً وعالمياً في فترة قصيرة نسبياً، كما أنه صاحب الحظوظ الأبرز في الترشيحات لجائزة نوبل أكان ذلك على مستوى النقاد أو القراء العاديين لا تخرج روايته الجديدة “تسوكوروتازاكي عديم اللون وسنوات رحلته” عن التوصيفات العامة لعالم موراكامي الأدبي، ثمة حضور ثري للسريالية، الأحلام، التأمل، الفلسفة، الموت والموسيقى خاصة الجاز بل ربما كانت هذه الرواية الأشد تكثيفاً لكل هذه الثيمات، كما لا تبتعد كثيرا عن الأسلوب الكافكاوي ابتداءً من الجملة الأولى “في ليلة سبت، كان تسوكورو وهابدا يتحدثان في وقت متأخر كعادتهما عندما انتقلا إلى موضوع الموت “أو في الصفحات الأولى التي تلخّص حوارية رائعة عن معاني الحياة والموت وعالم الدنيا وعلاقته بما بعد الموت. القراءة المدققة لرواياته الأخيرة تظهر أن الأسلوب يمتد رجوعاً إلى مجموعته القصصية المذهلة “صفصاف أعمى، امرأة نائمة”2006. التي تتضمن قصصه المكتوبة خلال ربع قرن (1980-2005) نجد التفاصيل الصغيرة لعالم موراكامي، وتجعله بمثابة الياباني الذي لا يشبه إلا نفسه، وسنجد في تلك القصص روح موراكامي الذي يصنفّه كاتباً أوروبياً أكثر من كونه يابانيا، بينما هو عملياً، يحاول خلق اليابان الخاصة به بكل صخبها بعيداً عن كل أصداء اليابان التي وصلتنا منذ نصف قرن عبر أدبائها. يفضّل “كافكا اليابان” العزلة في حياته الشخصية، كما لا يحبّذ السفر خارج اليابان باستثناء السنوات من 1992-1995 التي قضاها كاتبا زائرا في بعض الجامعات الأمريكية، ومع ذلك لم تخل حياته من الأحداث المثيرة للجدل، خاصة عند تلقيه (جائزة القدس)عام 2009، إذ تزامنت الجائزة مع العدوان الإسرائيلي على غزة، لكنه أصرّ على قبول الجائزة وحضور المراسم رغم التظاهرات التي شهدتها اليابان ضد العدوان الإسرائيلي، والداعية إلى وجوب مقاطعته للكيان الإسرائيلي. ورفضه للجائزة، ولكنه سافر  إلى القدس ليلقي كلمة (تقريعية لسياسات إسرائيل).
إبراهيم أحمد