ثقافة

“العاشق” لـ عبد اللطيف عبد الحميد: جرأة عالية في الطرح وطبيعة ساحرة في دور البطولة

تعود العين الذكية للمخرج “عبد اللطيف عبد الحميد” لإسناد دور البطولة السيدة للطبيعة الساحرة في ريف الساحل السوري وذلك في وقائع فيلمه الأخير “العاشق” إلى جانب كل من ديمة قندلفت وعبد المنعم عمايري والمخرج أيضا الذي عاد ليظهر أمام كاميراه في العاشق بدور الأب، الدور الذي امتد على طول زمن الفيلم، بعد ظهوره في فيلم “صديقي الأخير” للمخرج “جود سعيد” الذي قام أيضا بالتواجد في “العاشق” دون أي مبرر درامي حيث سنشاهده في مشهد قائم على المصادفة المصطنعة، عندما يقوم سائق السيارة بالتوقف لشراء زجاجة ماء من أحد الأكشاك فيظهر”جود” ويقوم بصفع “مراد” أدى دوره “عبد المنعم عمايري” ونعته بأنه “أجحش مخرج بالعالم” دون أي سبب لاحق أو سابق بل هكذا، وربما أحب “جود” أن يرى قدراته التمثيلية بعد أن رأى مقدراته الإخراجية، ولا أدري لماذا اعتبر “عبد الحميد” قبل العرض أن الجمهور سيكون على مفاجأة بظهور “جود” في فيلم العاشق.
كان فيلم العاشق” تأليف عبد اللطيف عبد الحميد” وإنتاج المؤسسة العامة للسينما، قد انطلق أول أمس في عرض خاص قبل أن تبدأ عروضه التجارية في المستقبل القريب في صالة “سينما سيتي” بدمشق بحضور رسمي تمثل بوزير الثقافة الأستاذ عصام خليل ومدير المؤسسة العامة للسينما “محمد الأحمد” ولفيف من أهل الإعلام والفن وعشاق السينما، في الوقت الذي وُعدت دمشق  به من بعض شذاذ الآفاق بالقصف الصاروخي على كافة مناطقها، إلا أن السوريين كعادتهم يتندرون حتى على الموت.
جاء “العاشق” ليروي قصة حياة مؤلفه ومخرجه تلك التي بدأت في واحدة من قرى ريف الساحل السوري الفقير، في بيت أب تجري العروبة وأهداف حزب البعث العربي الاشتراكي – باعتباره حزب الفقراء والمستضعفين- في دمه، حيث سيكبر “مراد” بين تردد الوالد في ذهابه إلى المدرسة بعد اعتماده في العديد من الأمور الحياتية عليه “العمل في الأرض والحرص على تلبية أوامر والده مع أخته وأمه في تقديم الطعام والشراب بشكل يومي للرفاق الحزبين، الذين ظهروا في الفيلم كأشخاص انتهازيين لا يدفعهم إلى تلك الاجتماعات الحزبية التي كان يقيمها “أبو نزار” في بيته إلا كرمه الحاتمي معهم، فهاهم يتخلون عنه عندما يمرض ولا يرى أحداً منهم” وبين رغبة الوالد في أن يحيا ابنه حياة أخرى أقل شقاء من تلك التي عاشها ابن القرية التي كان يفت صخورها ليحيا وأسرته.
ونطل عبر تلك المرحلة على حيوات وقصص أخرى جاءت لترفع من القيمة الحكائية للفيلم التي كان يمكن تقديمها في مدة زمنية أقصر بكثير من المدة الطويلة نسبيا التي امتد “العاشق” على زمنها “ساعة ونصف” لو لم تطوق الحكاية العامة ببعض من تلك الحكايات الجانبية.
اعتمد المخرج أسلوب السرد الزمني المتناوب في تقديمه لحكايته، وذلك من خلال عملية مونتاج يقوم بها مخرج شاب “مراد” لفيلمه الأول، حيث ستطلعنا عملية المونتاج تلك على الزمن الماضي من تلك الحكاية بشخوصها الماضية ورموزها اليوم أو الحاضر الذي سترويه رحلة العمل بمونتاج الفيلم نفسه. وهذا خيار موفق اختاره المخرج لسرد الحكايتين والمقاطعة بين زمنهما دون أن يدخل المشاهد في متاهة بصرية، حيث ستنتقل بالمشاهد بسلاسة بين الزمنين حاملة ماضي تلك الشخصيات وحاضرها بإسقاطات راهنة تبدو مقحمة على الحكاية الحقيقة التي أخبر”عبد اللطيف” أنه أنجز كتابتها عام 2010 أي قبل عام من بدء الأحداث في سورية، لتستولي تلك الإسقاطات على القصة العامة للفيلم وتصبح قصة الفتى الذي صار مخرجا سينمائيا مناسبة لعرض بعض من أسباب الأزمة التي يرى المخرج أنها كانت أي تلك الأسباب “كفساد كبار الموظفين البعثيين” واحدة من أسباب ما نحن فيه اليوم، فهاهو مدير مدرسة القرية اللاهث ليتفوق صوت تلاميذه على صوت تلاميذ المدارس الأخرى بترديد شعار الحزب في الوحدة والحرية والاشتراكية، في إشارة بينة من المخرج إلى بعض الحزبيين الذين كانوا يتقنون ترديد الشعارات فقط دون الإيمان بها سعيا خلف مناصب حكومية أعلى وأرفع، ليصبح واحدا من أولئك البيروقراطيين الذين هرموا خلف مكاتبهم، رغم منبته الطبقي الكادح، وليبقى الإيمان بتلك الشعارات حتى دون فهمها محصورا بالفقراء، كـ”أبو نزار” أدى دوره “عبد اللطيف عبد الحميد” الذي بقي يردد الشعار فوق تلك الربا والجبال حتى دنت ساعته.
لن تخفى أيضا الإشارات التي يؤكد فيها المؤلف/المخرج على أن الشعب السوري واحد لا دين يفرق بين أبنائه، فالهوية الدينية لصديق طفولة مراد “الدكتور عمر” أدى دوره “لفنان قيس الشيخ نجيب”، لن تمنعه من أن يبقى الصديق الوفي وبيت السر والأخ الذي لم تلده أمه، حيث سنرى أيضا سوء معاملة الأخ الأكبر لـ مراد “نزار” القاطن في غرفة بمدينة اللاذقية لأخيه، بعد أن قدم ليسكن معه في فترة دراسته الثانوية، وهنا تظهر أيضا شخصية تبدو ملامحها واضحة في العديد من أفلام المخرج، وهي ابن القرية القاطن في المدينة  الذي لا شيء يشغله إلا إقامة العلاقات الجنسية، وكنا قد رأينا هذه الشخصية في فيلم ليالي أبن أوى في الدور الذي قدمه الفنان محسن غازي في الفيلم المذكور.
والغريب في “العاشق” انه يمر على اللحظة السورية الراهنة من خلال شعار نسمعه في نهاية الفيلم دون التطرق إلى أي تفصيل من مفاصل الأزمة الآن، وهذا يجعل من تلك الإسقاطات السياسية بلا معنى أو مناسبة في فيلم من المفترض أنه يسرد حكاية أخرى.
المخرج الشاب مراد يسكن أيضا قبالة جارة جميلة “ريما” أدت دورها ديمة قندلفت وهو مرتبك بتحديد هوية مشاعره تجاهها، بعد أن خاض في زمن المراهقة قصة حب كسرته، مع ابنة الجيران أيضا، التي يرغمها والدها على الزواج من شخص أخر، إلا أن البراءة والطفولة التي يجدها مراد في “ريما” رغم ظهورها الجريء في بعض مشاهد الفيلم وهي ترتدي قمصانا فقط المفروض أنها لـ “مراد” لكنها في الواقع تبدو لرجل أطول وأكثر سمنة منه، وربما لو كانت القمصان التي ارتدتها الفنانة “قندلفت” في العاشق تناسب شخصية البطل لما استطاعت تلك المشاهد أن تمر في الرقابة، لكن يبدو أن المخرج أحب أن يرى مشهد الحبيبة التي ترتدي قمصان حبيبها في بيته حتى وهي تصده بصفعة على وجهه إذا حاول مداعبتها، هي أي الحبيبة متحفظة حيال القبلة التي تُشعرها وكأنها عارية ولكنها غير معنية بأن تظهر ساقاها بإثارة لافتة أمامه، وهذا مشهد قد نراه في فيلم هوليودي لا في فيلم تظهر الحبيبة فيه تخشى من فكرة القبلة!
ربما كان وجود هذا المشهد الجميل الذي أدته بحرفية “قندلفت” هو لمغازلة شباك التذاكر ولكنه ليس موظفا أبدا لخدمة القصة.
ينتهي الفيلم بزواج مراد من”ريما” رغم محاولة حبيبة الطفولة الاتصال به بعد مرضها الخطير وكأن الزمن يعاقبها على ذنب لم ترتكبه، فهاهي محبوبة البطل وفق ما يرغب به المغنون في أغانيهم المصورة بالفيديو كليب، تظهر بعد أن تركته مريضة وبائسة، ولا أرى داعيا لظهور تلك الذكرى مرة أخرى خصوصا وأن “مراد” لن يعرف بها أي لن يكون لها أي جدوى في سير القصة، اللهم ماعدا إطالة زمن الفيلم.
وتتزامن نهاية الفيلم مع التوقيت نفسه الذي وضعه مدير المدرسة أدى دوره “فادي صبيح” لـ “أبو نزار كي يردد الشعار بصوت قوي على الطلاب في الساعة الثامنة صباحا موعد الاجتماع الصباحي في المدرسة، إلا أن الصدى يجيب أبو نزار بهتاف آخر إلى جانب “وحدة حرية اشتراكية” وهو واحد واحد واحد الشعب السوري واحد، الشعار الشهير الذي انطلق في بداية الأحداث في سورية في المظاهرات التي ادعت السلمية بشعاراتها فيما الذبح قائم على النطع تحت تلك الشعارات.
عبد اللطيف عبد الحميد لم يغير من تعاطيه مع اللهجة الساحلية بالاستخفاف ذاته هذه المرة أيضا فهاهي أي اللهجة القروية الساحلية في “العاشق” أيضا تكون الفاصل الكوميدي الذي يرفه عن الحضور، خصوصا وان الشخصية الرئيسية في الفيلم “مراد” سيراه الجمهور لا يتحدث بلهجته التي تعلم بها وقرأ وأحب بها إلا أمام أهله أما أمام المجتمع المدني فها هو يبدل القاف “بالئاف”، وكأنه لا يجوز أن تكون هذه اللهجة حاضرة إلا للسخرية أو للحزن فقط، بل إن المخرج ذهب أبعد من ذلك في تحقيرها، فالمعلم الشريف الوحيد في المدرسة الريفية التي تعلم فيها البطل في طفولته، المعلم الذي لا يقبل أن يدوس احد كرامته حتى لو كان مدير المدرسة  الذي يراقب سير العملية التعليمية من وراء النوافذ، بعد أن يعتبر أنه يتجسس عليه ويقرر مغادرة المدرسة لولا رجاء الطلاب بان يبقى، المعلم الذي يحتفل مع طلابه بترفعه في الجامعة، المعلم الراقي في سلوكه وهندامه المختلف عن هندام بقية المعلمين، هو الوحيد بين زملائه المدرسين من يتكلم لهجة مدنية لا قاف فيها!
تمام علي بركات