ثقافة

سليم سركيس في “غرائب المكتوبجي” كلّهم أروغ من ثعلب.. ما أشبه الليلة بالبارحة

متكئاً بغلافه الهرم على حافة سور التكية السليمانية، رأيته ونسمات شباط الصباحية الباردة، تقلب أوراقه الصفراء الباهتة، كأننا على موعد مسبق، أنا بحكم فضيلة التسكع الصباحي القديمة في شوارع دمشق، بجوار مكتبات الأرصفة، وهو بصفته الرسمية، إبداع متقاعد على حافة النسيان، يدفئ حروفه العتيقة المصابة بترقق الحبر ووهن الإهمال، تارة بحرارة أكف عابر سبيل استظرف اسمه، وتارة بمحتواه المنير، ولأن لسخرية الأقدار مساربها الغريبة، أذهلني كيف يطمئن من حكم عليه بالإعدام، بجلوسه مطمئنا إلى جوار وجود رمزي للآمر بفنائه، مع فارق جوهري وطبيعي: خلود الأصيل، وفناء المتجبر!.
هذا هو حال كتاب “غرائب المكتوبجي” والمكتوبجي هو لفظ يتألف من كلمتين: “مكتوب” بالعربية و”جي” التركية الملحقة بمعنى عمل أو مهنة، وهو اللقب الذي كان يطلق على مراقب الجرائد والصحف في المملكة العثمانية)  لمؤلفه “سليم سركيس”  صحفي وأديب ومؤرخ لبناني (بيروت 1869- 1926)،صاحب الجريدة الأسبوعية “المشير” ومديرها ومحررها، وقد نجح صاحب “سر مملكة” في التوفيق بين الصناعة الصحافية والالتزام الوطني، لذلك كانت “المشير” قبلة أنظار الأحرار الذين كتبوا وجاهدوا لمحاربة الفساد والاستبداد في المملكة العثمانية، حيث أثارت بنقدها اللاذع حفيظة الدولة العثمانية، فحكمت عليه بالإعدام غيابيا، فما كان منه إلا أن أرسل هدية غريبة الى”السلطان عبد الحميد”  وهي عبارة عن كتاب “غرائب المكتوبجي” بعد أن قام بطبعه في مطبعة السلام بمصر عام 1896 على حساب جريدته “المشير” استهله بإهداء للسلطان “عبد الحميد” وأيّما استهلال من مثقف حر ومفكر نبيل، بدأه بما يلي:(مولاي.. يسوءني أنني من جملة رعاياك لأنه يسوءني أن أكون عبدا، وأنت عوّدتنا أنك تعتبر الرعية في منزلة عبيد لك بدل أن تتبع الحقيقة، وهي أن تكون عبداً لنا).
يتضمن كتاب “غرائب المكتوبجي”، كما يقول مؤلفه ما عرفه محرر المشير بنفسه وما بلغه من رصفائه في تركيا عن مراقبة الجرائد في السلطنة العثمانية، وخصوصا عن غرائب المكتوبجي في بيروت، يوم كان اسم سورية يشمل لبنان والأردن وفلسطين والشام، حيث ينقل لنا فيه 54 غريبة من غرائب “المكتوبجي”، ثم يقول: هذا قليل من كثير من غرائب المكتوبجي، في العصر العثماني، أوردتها للقارئ عسى أن يدرك مقدار العذاب العظيم الذي يعانيه اصحاب الجرائد في تركيا.
يتطرق الكتاب في أحد مفاصله إلى سورية باعتبارها أقدم مكان ظهرت فيه الجرائد السياسية والعلمية، في السلطنة العثمانية، وكيف أنها كانت كثيرة العدد حتى زادت عن أمثالها من الولايات بكثير من الجرائد، وكيف أن الجرائد فيها كانت مطلقة الحرية في أول نشأتها، لا مراقبة عليها ولا سيطرة، يلجأ إليها المظلوم ويخافها الظالم، حتى أن بعض هذه الجرائد ومنها “لسان الحال” لصاحبها المعلم “بطرس البستاني” كما كان يناديه”سركيس”كانت تكتب بحرية لا تقل عن الحرية التي كانت تكتب بها جرائد مصر آنذاك بعد أن تقلص النفوذ العثماني فيها، حتى أن مصر كانت تلجأ إلى سورية وتنشر على صفحات جرائدها بعضاً من قضاياها عالية الحساسية.. (طبعاً وباجتهاد شخصي، أعلّل ذلك، لجهل العثمانيين بقيمة القلم الحر إلا في شؤون الدسائس والتخطيط للدمار، ولقلة الأعداد المتوفرة للقراءة والتداول بين الناس، وارتفاع نسبة الأمية بين البسطاء الساعين لقوت يومهم، كما كان لصدورها باللغة العربية التي يجهلها أجداد “أردوغان كما يجهلها هو نفسه” بالغ الأثر في عدم اكتراث سلطة الباب العالي بتواجدها، إلا أن تلك النعمة لم تدم طويلاً في سورية بعدما انتبهت الحكومة العثمانية إلى ضعفها وتقدم الشعب السوري، وكثرة جرائده، وعزمه على المطالبة بحقوقه على صفحاتها، فما كان من الحكومة العثمانية إلا أن أصدرت قانوناً للمطبوعات، أجبرت الجرائد  على الخضوع لسلطانه.
يسرد الكتاب بطريقة سلسة وبسيطة العديد من المواقف السيئة والغبية بآن التي تعرض لها مؤلف كتاب “خبايا الزوايا” على يد “المكتوبجي” وفيه الكثير من الحوادث التي تدل على محدودية فهم هذا الموظف، وغبائه الشديد في تعاطيه مع الأخبار والوقائع والحالات الاجتماعية بشكل عام، متمسكاً بمعيار أوحد وأصمّ، ما يرضي السلطان وما يزعجه، دون أدنى دراية من هذا الرقيب العجيب بمزاج السلطان المطلق، ومن جملة ما يرويه عن هذه الانتقائية المضحكة كيف أنه قام بحذف جملة “الطليان أمة المعكروني” من مقال يتحدث عن إيطاليا، زاعما أن هكذا وصف يكدر حكومة إيطاليا، وكأن جرائد سورية آنذاك تحت مراقبته أصبحت نظير التايمز والديلي نيوز، حتى تقرأها حكومة إيطاليا وتتكدر منها!.. كما تم منع القصص الغرامية المترجمة، زاعماً أنها تعلم الناس العشق، متغابياً وغافلاً بجهله عن العديد من الكتب العربية التي تخطت مرحلة العشق بأشواط بعيدة في تعاطيها مع هذا الشأن مثل “شقائق الأترج في رقائق الغنج، تحفة العروس، نواضر الأيك” عدا عن القصائد الشهيرة لفحول الشعر العربي كالنابغة الذبياني وامرىء القيس.
نستطيع أن نعتبر أن كتاب “غرائب المكتوبجي”من الكتب التي يمتزج فيها جانب من السيرة الذاتية مع تجارب واختبارات لمعاصري المؤلف الذين أفاد من تجاربهم الشخصية في هذا المعترك، لكنه فعلياً كتاب يتناول بالأسماء المباشرة والوقائع المباشرة والتجربة المباشرة البدايات الحية للتجربة الصحافية في بلادنا، وهو يتحدث بذلك عن موضوع راهن بالغ الأهمية هو موضوع الرقابة والرقيب، والدور السلبي لثقافة الرقيب الضحلة في بعض الأحيان التي تقصي بجمودها الكثير من الإبداعات الفكرية القيمة.
غرائب المكتوبجي من الكتب التي سيتمنى أي شغوف بأدب السخرية الصحفية قراءته، فهو كتاب جريء، وقيّم، ومكتوب بلغة شيقة تذهب نحو تبسيط المفردات، وجعلها أكثر حرارة باستخدام المؤلف للعديد من المفردات العامية التي أعطت للكتاب قيمة مضافة بجعله أقرب إلى كلام الناس، حديث الشارع، حديث الحياة الحقيقية.

تمام علي بركات