ثقافة

هل يكمل الميتا واقعي فراغات الواقعي؟ وقعة “بدر”

أوس أحمد أسعد
معركة “بدر” كانت شديدة الأهمية تاريخيّاً، بنتائجها الحاصلة، حيث انكسرت هيبةُ الملأ القرشي، وانبثقت شعلة أصحاب الدعوة لتغمر فضاءات الجزيرة العربية، وسرعان ما حاولت أرستقراطية قريش امتصاصها بدهاء، مدركةً أنّها ستكون المستفيد الأكبر من نجاحات/الرسول وأصحابه فيما بعد/وقد قال الرسول يوماً لـ “أبي قتادة الأنصاري”: يا أبا قتادة إنّ قريشاً أهل أمانة، ومن بغاهم أكسبه الله إلى فيه، وعسى إن طالتْ بكَ مدّة أن تحقر عملكَ مع أعمالهم وفعالكَ مع فعالهم، ولولا أن تبطر قريش لأخبرتها بما لها عند الله/.
في “بدر” تجلّت شخصيّة الرسول الفذّة، كمخطّط وقائد عسكري يعرف كيف يستثمر الجغرافيا السياسية لعالم ذلك العصر، ويرصد الأماكن الاستراتيجية للمعركة، ويولي الأهمية اللازمة للحرب النفسية، إذْ قبل الهجوم على القافلة القرشيّة، أرسل رسالة ذات مغزى كبير على لسان “عاتكة بنت عبد المطلب” عمّته نقلها أخوها “العباس” إلى مجالس قريش تقول:/والله لقد رأيت رؤيا أفظعتني..رأيت راكباً أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثمّ صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل “غدرٍ” لنصارعكم في ثلاث، فأرى الناس اجتمعوا إليه ثمّ دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله، مثلَ به بعيره على ظهر الكعبة،ثمّ صرخ بمثلها، ألا انفروا يا آل “غدرٍ” لنصارعكم في ثلاث(..)” ثم أخذ صخرةً فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضّت، فما بقي بيت ولا دار، إلا ودخلتها منها فلقة/ .تلقف “أبو الحكم” الرّسالة/،وكان من سادة قريش قائلاً: /يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبيّة؟ (…) سنتربّص بكم هذه الثلاث(…)،وإنْ تمضي الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابنا “أنكم أكذب بيت في العرب” /.ولم تمضِ الأيام الثلاثة حتى أتاهم مبعوث قائد القافلة “أبو سفيان” يستصرخهم لحماية القافلة: / يا معشر قريش اللّطيمة اللّطيمة في أموالكم مع أبي سفيان،قد عرض لها محمد وأصحابه، الغوث، الغوث../ وخرج الرسول كما يروي “السهيلي” عامداً إلى التّخفّي، آمراً بقطع خيوط الأجراس من أعناق الإبل ليسير الرّكب صامتاً، مقسّماً جيشه إلى ألوية وكلّ لواء مع راية وشعار خاصّ ،وشعار الجميع..يا منصور أمتْ../لم يترك شيئاً للمصادفة لأنّ الخطأ سيكون قاتلاً مع تفوق الكثرة القرشيّة العددي ،وممّا ساعد في هزيمة قريش أيضاً نكوص “آل زهرة” وكانوا يشكّلون ثلث العدد، وخذلان”سراقة بن مالك الذي وعدهم باللحاق بهم مع بني “كنانة” وأخلفَ، وقد أتتْ خطة معركة “بدر” استجابة لرأي “الحباب بن المنذر الأنصاري” القائلة بأن تغمر أحواض الماء بالأتربة، لمنع قريش من الشرب، بينما الرسول وأصحابه يتوضعون في الأعلى حيث الأحواض النظيفة، وقد صادق الرسول على الخطة من خلال رسالة “جبريل” القائلة: / يا محمد، ربّك يقرأ عليك السلام،ويقول لك إن الرّأي ما أشار به “الحباب” / كما يروي “ابن كثير” وظلّ يشرف على المعركة من مكانه في خيمة/ أعلى الجبل،كما يروي “الحلبي” ومعه أبو بكر وتحيط به ثلّة من الحرس بقيادة “سعد بن معاذ”.وأرسلتْ السماء أمطارها بغزارة لتغوص خيول قريش في الوحول  بينما خيول الصّحابة في الشعاب الجبلية حيث تغور الماء .ويستطلع الوحي مزاج ومعنويات المقاتلين ويأتي بما يتناسب وضرورات المعركة/الآن خفّف الله عنكم وعلم فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين/الأنفال 66/ ويكفي ذكر موقف “أبي حذيفة” للتّدليل على إيمان أصحاب الرسول بأقواله، وهو الذي رأى والده”عتبة بن ربيعة” من أعيان قريش مقتولاً هو وعمه”شيبة” وأخاه “الوليد” لتهال عليهم رمال القليب،كما ساهم وعد الرسول لأصحابه بأنّ من يقتل قتيلاً فله سلبه، ومن يأسر أسيراً فهو له ومن خاض بدراً فله شفاعة خاصة يوم البعث، بالنّصر..لتنتهي المعركة بدحرجة رؤوس سادة قريش، وهم القادمون ليبرهنوا للقبائل ولأكبر قوتين آنذاك”الروم والفرس” بأنّ هيبتهم باقية فإذ بها تنكسر على نصال وقعة “بدر”.
لكن الحدث الواقعي سرعان ما انفلت ليعلو إلى فضاء الأسطورة، حيث نرى تدرّجه من الواقعي إلى الميتا واقعي بالقول: أول شهيد مسلم مهاجر في “بدر” هو “عبيدة بن الحارث” الذي بارز “عتبة بن ربيعة” فحمله رفيقاه “حمزة وعليّ” إلى الرسول وأسلم الروح شهيداً على فخذ رسول الله،ثم تأتي رواية “الشعبي” لتؤسطر حدث مقتل “أبي جهل”:/ إنّ رجلاً قال للنبي: إننّي مررت ببدر فرأيتُ رجلاً يخرج من الأرض فيضربه رجلٌ بمقمعةٍ معه حتى يغيب في باطن الأرض، ثم يخرج فيفعل به مثل ذلك، قال ذلك مراراً فقال رسول الله، ذاك أبو جهل بن هشام،يضرب إلى يوم القيامة/.مع أنّ الثلاثة الذين قتلوا “أبا جهل” معروفة أسماؤهم تاريخيّاً..!! .وها هو حدث رمي الرسول حفنةٍ من “البحص”على الخصوم إيذاناً ببدء الهجوم بالقول: شدّوا، يتحوّل إلى حالة فوق واقعيّة.يروي “حكيم بن خزام”حسب “ابن كثير”:/ التقينا فاقتتلنا(…) وقبض النبي قبضة فرمى بها،فانهزمنا وسمعنا صوتاً من السماء وقع على الأرض كأنّه صوت حصاة في طست، فرمى رسول الله تلك الحصاة يوم بدر فما بقي منّا أحد/ فالحصى غدت هنا سماوية،ولها دور إعجازي..!! وهنا يقول البعض، بأنّ هذه الروايات ربّما أتت على لسان بعض من سمّوا بـ / الطّلقاء، والمؤلفة قلوبهم/ ليبرهنوا على صدقهم،بعد عفو الرسول عنهم حين دخوله “مكة” منتصراً، وتبقى المفارقة الأكثر إثارة للانتباه: / بأنّ الشاهد الذي شاهد مشاركة الجنّ والملائكة في معركة “بدر” فقد بصره، حسب “السّهيلي” واسمه “أسيد مالك بن ربيعة” يقول: / لو كنت اليوم معي ببدر ومعي بصري لأريتكم الشّعب التي خرجت منها الملائكة، لاأشكّ فيه ولا أتمارى/.