ثقافة

ملتقى عائلة البزق

أكسم طلاع
تعرفت على  آلة البزق حينما سكن بالقرب من حينا المتاخم لبساتين دمشق مجموعة من الفقراء مثلنا، بيوتهم بنيت على عجل، حتى شخصياتهم تتعامل مع الناس أيضا على عجل، يؤدون للناس خدمات جدا بسيطة مثل صناعة أسنان الذهب والغرابيل والآلات الموسيقة كالربابة، ومنهم من كان موسيقيا بالفطرة، وقد تعرفت على ولد منهم يعزف على آلة شبيهة بالعود، فقيرة في الشكل وبسيطة لكنها ساحرة بين يديه، تخرج منها ألحان ونغمات تتراقص لها الروح، قال لي حينها الولد سأعلمك العزف بعد أن تشتري مني الآلة، بشرط أن ترسم لي لوحة وأنا أعزف لك، لقد كان الطلب صعبا علي تحقيقه فأنا مثله فقير لا أستطيع أن أشتري وترا منها فكيف سأشتري هذه الآلة المؤلفة من أوتار وزند وطنبور من الخشب الثمين، حتى لو تمكنت من جمع المبلغ واشتريت هذه الآلة كيف لي أن أرسم له اللوحة  التي طلب والتي تعبّر عما وصلني من عزفه الذي سأسمعه منه حينها.
الحقيقية لم أحصل على آلة البزق إلا بعد سنوات، ولم أتعلم بعد العزف عليها، لكن وصلني سحر ما بناه في نفسي ذاك الصبي بأن الموسيقى هي بناء وعمارة وحضارة أحسست بها،  وفرح ينتابني ويدفعني إلى سلوك أجمل. فيما بعد عرفت أن ذاك الولد اسمه نجاح وهو قريب لمحمد عبد الكريم أمير البزق. انتهت الفكرة هنا، فالجديد أن أحضر في دار الأوبرا “ملتقى البزق” الرابع الذي اختتم منذ أيام في دار الأسد للثقافة والفنون بدمشق، وقد ضم الملتقى مجموعة من العازفين الموهوبين على آلات البزق والطنبور والباغلمة، وهذه الآلات من عائلة وترية واحدة ميزتها البساطة والحساسية العالية التي تتجلى في أداء العازف الماهر القادر على اكتشافات جديدة من إمكانات هذه الآلة الساحرة، التي ارتبطت بميراث موسيقي ينتمي إلى جغرافيا الشمال والشمال الشرقي من سورية الغني بروحانيته  العميقة، فقد رقص العشاق على أنغام هذه العائلة من الأوتار المشدودة على زند ترتجف الأصابع عليه، تتحسس علامات خلاقة للتجلي والصعود نحو الصور العالية التي ترسمها الموسيقى، حيث عاطفة الإنسان التواقة إلى التشوف ودخول مناخات من الذهول وغبطة الحب والإنسانية الشفافة. كنت أبحث عن نفسي التي كانت هناك في مكان لا يشبهها أبدا، تستمع لتطير ولو قليلا.. شكرا لهم فقد أجاد منظمو هذا الملتقى ونجحوا في الحفاظ على تقليديته ودوريته كل عام  وتحسب للإعلامي إدريس مراد صاحب الفكرة ومنسق الملتقى جهوده المثابرة، وقد شارك هذا العام  ثمانية عشر عازفا، وكل عازف قدم تقاسيمه أو معزوفته التي يختار، فخلال ثلاث أمسيات متتابعة في دار الأسد للثقافة والفنون استمتع الجمهور المحب والذواق بما قدمه هؤلاء الموسيقيون، وقد رافقت بعض الآلات الموسيقية العزف مثل الكونترباص والتشيللو والكمان، إضافة للإيقاع في عملية خلق مساحة موسيقية خلفية للبزق، وكان هذا الخيار واعيا للدور المطلوب من هذه الآلات بحيث لا تعلو أو تؤثر على حضور كامل لنغمات البزق.
ومن الأسماء التي أجادت: سامر إيبو– عبد الحميد علو– معمر أدناوي– نذير شيخ محمد– شكري سوباري– رأفت أبو حمدان– رامي حاج حسن– آلند شيخي- عبد الله علو– مدني جميل– فنر عبد الله– آلان مراد وعبود سعدي وغيرهم. وهنا تحضرني فكرة أن يطلق اسم أحد العمالقة على كل دورة مثل الراحل محمد عبد الكريم  “أ مير البزق”. وأن يترافق الملتقى مع ورشات عمل وندوات تعريفية بهذه الآلات ودراسات تعليمية وتثقيفية بها، ومن المفيد أيضا أن يحذو حذو هذا الملتقى ملتقيات أخرى لآلات موسيقية أخرى كالعود والناي والقانون، لأن هذه الأنشطة فيها من الفائدة الكثير على صعيد التذوق والتعلم وتعريف الجمهور بأولئك الرائعين بطريقة مختلفة وحضارية.