ثقافة

تعددت أساليبها ومضامينها : آراء حول مواكبة القصة للأزمة

لم يكن الأدب بكل أنواعه بمنأى عن الأزمة التي عصفت بحياتنا. وإزاء كل هذا لا يستطيع القاص انطلاقاً من دوره في رصد قضايا مجتمعه أن يكون بعيداً عن واقعه ويسرد حكاياته من وحي خيالاته وتأملاته في عالم افتراضي؟ لأنه مشحون بهموم وطنه ومسكون بشخوصه بحياتهم وأحلامهم وانكساراتهم، فكانت القصة القصيرة شاهداً على العصر بكل مفرداتها ومقوماتها وصورها. وعبْر أربع سنوات عشناها صدرت مجموعات قصصية كثيرة تطرقت إلى الأزمة. ونلمح في المشهد القصصي تفاوتاً وتبايناً في الطرح والرؤية الواقعية والخيالية،فبعض القاصين جنحوا نحو المباشرة فكانت قصصهم مرآة تعكس الواقع بكل ألمه وقسوته، وهناك من واجه الأزمة بكتاباته بأسلوب غير مباشر محمّل بالرموز والدلالات والإيحاءات والتلميحات بدلاً من التصريح ،تضمنت دعوة إلى الحب والوفاق والتسامح،وهناك من ذهب إلى أبعد من ذلك فجسد منعطفات الأمل في المصالحة الوطنية.
الكاتب أيمن الحسن جمع الأسلوبين في قصصه فمجموعته “ذات شفق” كانت ممهورة بمتتاليات عشقية في زمن الحرب وتشكل الحالة السورية الراهنة خلفية للأحداث، إذ يبقى الحب أكثر ما نحتاج إليه الآن فيقول: “بدأ السواد يحتل القسم المضيء من أرواحنا” ونوّه بطريقة غير مباشرة إلى ضرورة الحوار، لكنه في إحدى قصصه بعنوان “الحذاء الموعود” تناول تبعات الأزمة بمباشرة واضحة عكست آثارها السلبية على الذات والمجتمع. ورغم خط الحب الخفي الذي يربط بين خطوطها بقيت القفلة المفجعة هي الحدث الأبرز، حينما تحدث عن صحفية فقدت ساقيها إثر قذيفة سقطت بمقرّ الجريدة التي تعمل فيها، “لاحظت ملامح الرعب على وجه أبي عثمان فقالت مواسية: لابأس حضر حذاء سندريلا لكنها الآن بلا قدمين” أما القاصة آمال شلهوب فنطقت بإيقاع حي ينبض بحب الوطن الذي تذوب فيه كل المشاعر الخاصة لينتصر هو كما في قصتها “القبلة الأخيرة” و”تترك على بندقيتي قبلتها الأخيرة التي دفعتني نحو الأمام” وبدت الإيحاءات والتلميحات متجلية في مجموعة الكاتب رياض طبرة “للحالمين بوحهم” في قصة يوم الرماد من خلال حياة مدينة افتراضية اختفت فيها الأعياد بعد أن توسعت وتشعبت الخلافات وكثرت الجهات حول المدينة لكن الحل لن يكون غير تسوية بين الأطراف “تحوّل الحراك في المدينة إلى شجار اندس بين الجموع المحتشدة من لم يكن لهم مقام، يميلون حيث تميل الريح يحرّضون الأطراف كلما هدأت ضباط إيقاع يعرفون كيف يستنهضون المتفرجين” في حين جسد الكاتب عدنان كنفاني همجية المسلحين وقسوتهم كما في قصة “رصاصة وإصبع مكسور” التي تشير إلى مسلحين قتلة تلاشى حسهم الإنساني حينما طلبت امرأة لقمة خبز لطفلتها التي تموت لكن أحدهم نهرها وأطلق مافي جعبته من رصاص “بعد خطوات قليلة صرخت بتضرع موجوع ماتت البنت..ألقى ما كان بيده وأطلق رصاصات كثيرة..” ونجح د. هزوان الوز في تصوير حقيقة التكفيريين والعصابات المسلحة وابتعادهم عن الفهم الحقيقي لتعاليم الدين الإسلامي البعيد عن القتل بغير حق والعنف وما يتبعه من تهجير وتشريد بمباشرة منطقية كما في مجموعته “صباح الياسمين.. صباح الغاردينيا” ففي قصة “أمنيتان” يسرد وقائع مواجهة أحد التربويين في المدرسة همجية التكفيريين البعيدين كل البعد عن الإسلام. “بعد أن ضجروا من الضرب ومن اقتلاع شعر رأسي من دون رحمة أو شفقة وهم يصيحون: أنت أبو الديمقراطية أيها الخنزير أيها المرتد” كذلك جسدت القاصة  سوسن رجب في مجموعتها “عطر ملاك” الأبعاد الإنسانية والاجتماعية والحياتية العامة للأزمة بأسلوب يتراوح بين المباشرة في الطرح والرمزية ففي قصة “من أجل يامن” سردت رجب وقائع لقاء عاطفي على مقربة من حاجز لكن رصاص القناص منع الحبيبة من لمس يد فارس، وامتزج دم سوسن بأوراق الورد وبكى فارس وتجمد الجنود من هول المشهد فسوسن لم تكن إلا رسول غرام، وقصيدة تسير إلى حتفها تحت مقصلة قناص مهووس بالقتل” والقاصة هدى الجلاب كانت الأقرب إلى المباشرة في مجموعتها “خارج المدار” التي غطى فيها الدم حبات الياسمين وعصف صوت تفجير القذائف في حارات دمشق وأزقتها،فرسمت صورة الجندي العربي السوري وتضحياته من أجل أن يعيش الناس بسلام وأمان كما في قصة “زيت سمك”: “أنا ضابط كما تعلمين لاأملك ذاتي أنا ملك الوطن نقلوني من دمشق، إذا كُتب لي العمر سأعود من أجلك فقط ادعي لي” أما  مجموعة هالا مرعي “عندما يغني الألم” فكانت بعيدة عن المباشرة واختزلت عبْر صفحاتها الحلم المفقود الضائع بين دهاليز الصمت وغياب الزمن لتصل بإيحاءاتها وتلميحاتها إلى الخراب والدمار الذي نقاومه كما في قصة “طائر الليل” “طائر الليل الذي يؤرق أحلامي، وهذا الزمن الراكض في الدم والخراب، آما آن له أن يتوقف”.  كثيرة هي الأمثلة التي حملت الخطاب القصصي الهادف وعبّرت عن جرح الوطن الذي لايلتَئم وألمه الذي لا حدود له، وكثيرة هي الشواهد التي سُردت بفنية عالية وحبكة درامية تراوح فيها السرد بين الضمائر وكانت مقاربة للواقع بقفلتها الموجعة وبأنين شخوصها وعذاباتهم.
وفي وقفة لـ “البعث” مع عدد من الأدباء والنقاد حول مدى مواكبة القصة القصيرة وقائع الأزمة وجنوحها مابين المباشرة والرمزية. يرى الناقد عوض الأحمد أن القصة تناولت موضوعات في غاية الدقة وضمن مساحات صغيرة تشبه الدائرة مثل الدفاع عن الوطن والشهادة وتجسيد الوضع النفسي والاجتماعي الذي نعيشه،وفي القطب الآخر من الدائرة كان هناك خطّ التخاذل والضعف والهرب من الوطن،وبرأيه طغت روح التفاؤل على المشهد القصصي الذي يومئ بالخلاص من الأزمة.

التلميح وليس التصريح
وللكاتب رياض طبرة رأي آخر في المشهد القصصي فمن وجهة نظره من العسير على أي أديب أن يلمّ بهذا المشهد الفجائعي وغير المسبوق الذي تعيشه سورية،ولا يمكن لأي أديب أن يتمكن من الإحاطة الشاملة والكاملة بالحدث الذي مازال مستمراً بعد أربع سنوات، ورغم ذلك مضى بعض القاصين نحو المباشرة وصولاً إلى الغاية المرجوة وهي إدانة الحرب ونشر روح التفاؤل ومحاولة التخفيف من آثار الأزمة،بينما عمد آخرون إلى التلميح وليس إلى التصريح وإلى التقاط جوانب تشير من قريب أو بعيد إلى إدانة هذه الحرب وهذه الجرائم وفي الوقت ذاته متضمنة دعوة إلى المحبة والتسامح والسلام.
ويذهب الكاتب عبد الفتاح إدريس إلى أبعد من ذلك فهو لايعترف بمصطلح المباشرة وغير المباشرة،فبرأيه لايمكن أن نتهم النص الأدبي بأنه نص مباشر بمجرد أنه يتحدث عن أحداث نعيشها،فالتقييم الأساسي للنص يكون من وجهة نظره من خلال قيمته الفنية وجماليته اللغوية والأسلوبية، وبرأيه أن القصة القصيرة يجب أن تواكب هذه الأزمة الطاحنة ولا يستطيع أي كاتب أن يكون بعيداً عن الحدث الذي يعيشه.

الخاطرة الأقرب لتوصيفها
ويخالفهم الرأي الكاتب أحمد جميل الحسن الذي كتب مجموعة خواطر عن الأزمة ويرى أنه من المستحيل أن تواكب القصة الحدث وتعكس ملامح الأزمة ،فبرأيه أن القصة ملعب للخيال وتحتاج إلى أحداث وزمان ومكان وإلى خيال مبدع وسرد واف، ويجب أن ننتظر إلى نهاية الأزمة لنكتب قصة مستوحاة من عوالمها،والأفضل أن نوظّف المقالة والخاطرة لعرض أحداث الأزمة.

محاولات توصيف
ويبيّن الكاتب عدنان كنفاني الذي كتب عدة قصص تحمل شعارات إنسانية وحماسية أنه في هذه الغرائب التي نعيشها والتي تفجّرت على الأرض وضعت كاتب القصة المبدع في زاوية مليئة بالأسئلة والدهشة،مما أربك الإنتاج المواكب للأحداث فمن يكتب عن ظواهر غريبة يختلف عمن يكتب عن محسوسات حقيقية معروفة أسبابها وحقيقتها ومراميها ويضيف:وعلى الرغم من ذلك فنحن نشهد محاولات من المباشرة شديدة الوضوح،وأخرى مرموزة فهي محاولات توصيف ونقل صور،لكن دون حسم معرفي يستند إلى حقائق منطلقها الأسباب وأهمها ذاك الاستهداف شبه العالمي لموقف سورية كدولة ممانعة ومقاومة وأرى أن هول الأحداث كان موجة صاعقة ونحتاج إلى وقت كي تواكب القصة القصيرة الحدث.

استنفار جميع الطاقات
ونتوقف مع الكاتب أيمن الحسن الذي أكد أن القاص ينزف قلبه ألماً وحسرة لما تكابده بلدنا سورية من هذه الحرب لذا يخضّب كلماته بالدم لتشرق غداً مواسم محبة وأمان وسلام بعد سنوات عجاف ومهما كانت الذرائع لابدّ من التعقل وسداد الرأي،وبرأيه نحن نحتاج إلى ملاحم أدبية مسهبة لاسيما ونحن نحارب الإرهاب،وهذا يتطلب منّا استنفار طاقاتنا الفكرية والاقتصادية والأدبية والفنية والعسكرية،إذ لابدّ من تضافر جميع الجهات لمواجهة هذا الإرهاب المستشري، والعيش بسلام وأمان وما على الأدباء إلا سلّ أقلامهم وشحذ هممهم العالية.

الرمزية قيمة إبداعية
وبرعت بالرمزية القاصة هالا مرعي التي عمدت إلى توظيف الرمزية ودلالتها في توصيف الأزمة من خلال تأثر أبطال افتراضيين عاصروا الأزمة وانعكست تبعاتها على  محيطهم العام،وترى أن الرمزية بأبعادها تعني الربط بين الحسي والمجرد كي يتعايش مع الروح العميقة التي تسكن النص الإبداعي،وتضيف:فكرة الموت تعيش في مخيلتي وأحاسيسي وأدخلت الرمز إليها كشعور يسيطر على ذهنية بطل يحبّ الحياة لكنه لايستطيع أن يغير شيئاً من واقع يحترق أو يوقف عبثاً الموت،ومن حديثها نستشف أنها ليست مع المباشرة التي تفقد المنتج الإبداعي الأثر الجمالي.

ضرورة مصيرية
وتجد الكاتبة سوسن رجب أن التطرق إلى ملامح الأزمة سواء بالمباشرة أم بالرمزية يمثل ضرورة تتعلق بمصير الوطن الذي منحنا هويتنا،وهنا يكمن المحك إذ لايمكن للإنسان العادي أن يقف متفرجاً على ما يحدث وسورية تصمد في مواجهة المؤامرة ،فكيف بالكاتب الذي يحمل ذاكرة البلد وتاريخها الماضي والحاضر ويستبصر المستقبل،وعليه أن يمارس دوره بضرورة الصمود،والمقاومة، ولكل أديب رؤية أدبية بالمباشرة أو الرمزية حسب أسلوبه.

إشارات مبهمة
وتؤكد الكاتبة هدى الجلاب أنها من خلال تجربتها تناولت الأحداث بأسلوب أدبي بعيد عن التوثيق،وهذا لايعني أن الأدب لايوثق التاريخ بل إنه يوثقه بقالب محبب جميل،فصوت الرصاص كان قوياً في خارج المدار حضر مع الموسيقا الصاخبة وزخات المطر وثرثرة الياسمين،تنوعت اللوحات والمشاهد لتبقى صورة الجندي العربي السوري هي الأجمل.
لقد نجحت القصة في مواكبة الأزمة لأن القاص جزء من المجتمع لايمكن أن يغمض عينيه عن أوجاعه ولا يستطيع أن يمنع نفسه من الإصغاء لأنينه ،ربما لم تحمل مقومات وفنية القصّ بالشكل الأمثل لأسباب عدة كما قال الكتّاب،وأكثرها بأن التعبير عنها بعد الخلاص يكون أفضل وأن المقالة والخاطرة والشعر الأقدر على التعبير،لكن ما المانع أن تكون القصة مرآة آنية لأوجاعنا.
ملده شويكاني