ثقافة

عليك السلام

مدلل من لديه أم يبدأ نهاره برؤيتها، يتنشق عبير وجودها، يلمح لطيف ابتسامتها، يتزكى برائحة يديها، ويشرب قهوته من عينيها، ويا له من محظوظ ذاك الذي تودعه بقبلة على باب كل صباح قائلة: «انتبه ع حالك ماما»، وتتصل به خلال يومه لتطمئن عن أحواله، ترعاه في مرضه، وتؤنسه في صحته، وتستمع دون ملل إلى ثرثراته.
هي تفاصيل صغيرة، لكنها تمثل الحياة كلها، فما تمنحه الأم بلمسة حانية منها يفوق كل الأمان الذي قد تمنحه أكبر سلطات الأرض، فأمانها هو ما يظل الإنسان يبحث عنه مهما كبر، ومهما علا شأنه، و«غفوة» في حضنها تعادل الكون بأسره، ومن فقد حنان أمه يتمن أن يبيع عمره لأي مشتر مقابل تلك الغفوة، فــ «لو كان العالم في كفة وأمي في كفة لاخترت أمي»، أقولها كما قالها جان جاك روسو بكل ثقة وإصرار.
في يومها تتلوّن الدنيا بــ «الحنية»، وتتبرج بالحب والعطاء، وترتدي ثياب الرحمة، فهو يوم غير اعتيادي لمن وهبت الدفء للأيام الجافة، وخاطت بأناملها جمال العمر، يوم لمن تضمحلّ الكلمات أمام عظيم ما تمنحه، وهي التي تدرك بوجودها أن الخير والحب السامي حقيقة لن يستطيع أحد نكرانها، إنها الأم التي ألغت احتمالية أن تكون الحياة غلطة- مع أن نيتشه يقول إن الموسيقا من ألغت هذه الاحتمالية- لكنني أرى أن الأم هي الأجدر بأن تمنح الحياة اليقين والصواب، فلولاها ما كان العطاء إلا أسطورة نسمع بحكاياتها، وما كانت التضحية إلا رواية منسية، فمنها خطف الحنان صفاته، وسرق البذل سماته، وهي من تكنت الدنيا باسمها «الدنيا أم»، ولها وحدها اعترف الزمان بالعظمة، وجعل الله الجنة تحت أقدامها.
ورغم محبتنا وتعلّقنا بأمهاتنا، إلا أن مشاغل الحياة تأخذنا، وتسرقنا دروبنا عن اللواتي أفنين عمراً غالياً لأجلنا، وعشن أجمل لحظاتهن عند أول خطوة نمشيها، وأول حرف نخطه في دفتر، وتحمّلن كل ما هو مر ليكون لنا كل ما هو جميل، غافلين عن أن الحياة التي تهدينا نعماً كثيرة، أعظمها على الإطلاق «الأم» التي تعود بدورها وتهدينا كل الحياة، فالحياة بظلها نعمة ونعيم، وإن كان لكل شيء بديل، فهي ولا سواها ليس لها أي بديل كأي شيء جميل وفريد يأتي مرة واحدة في العمر.. وإلى تلك القديسة الحلوة  التي «تحمل لي في حقيبتها  عرائس السكر»- كما قال نزار قباني- وإلى من تحمل التجاعيد المرسومة على كفها قصة عطاء، وفي كل ثنية في وجهها- المحبب إلى قلبي- حكاية حنان، ومن في رضاها الطمأنينة والسلام، أقول لها في يومها: عليك السلام.
لوردا فوزي