ثقافة

مجرد أم

بشرى الحكيم
أصيبت شابة اسبانية في الثالثة والعشرين من عمرها بالشلل التام بعد أن أصيب عمودها الفقري بكسور عديدة إثر سقوطها من الطابق الثالث لمنزلها، لم تفكر كريستين كثيراً قبل أن تحتضن صغيرها الذي لم يبلغ عامه الثاني، تغمض عينيه، تشده إلى صدرها، ثم تلقي بنفسها من نافذة المنزل، بعد أن شب حريق ضخم في المبنى، ولم تكن تأمل بوصول من يساعدها قبل أن تصلها النيران، كانت سعادتها بليغة عندما علمت أن ابنها لم يصب بأي أذى، الجميع في بلدتها يطلقون عليها صفة «الأم البطلة»، أما هي فتكتفي بالقول: «لست سوى أم».
أما فاطمة التي تزوجت قبل أن تودع طفولتها، فقد وجدت نفسها مسؤولة عن إيصال ثمانية أطفال صغار إلى بر الأمان، بعد أن فقدت زوجها وهي لم تتجاوز الثامنة والعشرين من عمرها، ولم تفكر الأم كثيراً قبل أن تغلق الباب على الأحزان والدموع، تخرج آلة الخياطة القديمة لتبدأ العمل، فالرحلة طويلة وشاقة، وعليها أن تتابع المسير، سبع فتيات أكبرهن في الثالثة عشرة، بينما لاتزال الصغرى تدب على الأرض، بالإضافة إلى فتى وحيد، لم تعط للأقاويل ولا للنصائح العديدة أذناً: «دعي الفتى يتعلم مهنة، صنعة، يعنك وأنت وحيدة، زوّجي الكبرى ترحك من بعض الهم»، فتصم أذنيها وتمضي.
كان قانون البيت، لا زواج ولا عمل قبل الشهادة الجامعية، أدارت عجلة الآلة القديمة، فدارت عجلة الحياة، وارتاد أبناؤها كليات الآداب، والهندسة، والصيدلة، والتجارة، والفنون، والطب، ولم يكن أحد يعلم، أو أنها لم تدع أحداً يعلم أن المرض كان ينهش جسدها لفترة طويلة، ولم تفصح عنه إلا بعد أن اطمأنت على كل منهم، وقد كون عائلته الصغيرة، فاستسلمت مختارة، «غير الزمان وغير المكان»، كان أهل القرية يشيرون إليها بالأم القديسة، بينما تقول لهم بابتسامة: «أنا مجرد أم».
الأمهات أيقونات على مر الزمان، فما بالكم بزمن حرب عالمية على سورية وأمهات الشهداء، هل سمعتم عن الأم «وجيهة» التي لم تكن الدموع لتجف يوماً على شهيد لها، حتى تعود للانهمار على سواه، من ابنها الكبير الذي لحق به سريعاً ابنه البكر «حفيدها»، ولم تكد تبتلع الغصة لتبدأ البكاء ثانية حين زُفّ إليها خبر استشهاد ابنها الثاني، فحفيدها الآخر، ثم ابن أخيها، ورغم كل هذه الأحزان تقف بصبر وعزم وكبرياء، وتشرح: طبعاً أنا حزينة عليهم، فهم أبنائي وأحفادي، ولكن ما أرخص دماء الأبناء حين يبعث موتهم الحياة في شرايين الوطن الجريح، إن لم يكن أبنائي وأبناؤكم، فمن يفدي الوطن، وتكمل دامعة: «أنا مجرد أم».. نعم مجرد أمهات.