ثقافة

الشيطان المقهور

تمام علي بركات
رأيته..كان جالساً في زاوية الحديقة، على مقعد خشبي قشرت الأيام بمرورها المستمر الطلاء البني الغامق الذي طليت به أخشابه، لكنها لم تنل من صلابته ومتانة وقوفه.
كان جالساً يضع قدماً فوق الأخرى ويدخن تبغاً بغيض الرائحة، يرتدي ثياباً لم تبطل موضتها تماماً، لكنها أيضاً لم تعد رائجة كما كانت، سروال أسود من نوعية قماش جيدة، حيث بدت جلية آثار الكي الطويل التي مرت على خيوطه فبهت لونها قليلاً.
قميصه يتغير لونه باستمرار، ربما بسبب الظلال الوارفة التي جعلت من العسير تحديد اللون إن كان زيتياً فاتحاً، أم رمادياً مخضراً، وسترة سوداء مقلمة بخيوط بيضاء نحيلة.
بدا وجهه أليفاً بملامحه البائسة، وشعر لحيته الذي لم يحلق منذ مدة قصيرة، وربما ساهمت بشكل قاطع حركات قدمه المهتزة فوق قدمه الأخرى مع حركة يده في محاولة لإشعال سيجارة بولاعة رديئة، بجعل الناس يتغاضون عن قرنيه الشاحبين وذيله الذي بدا وكأنه حمالة حقيبة متوسطة الحجم متروكة بإهمال تحت المقعد.
-معك قداحة لو سمحت؟
نظرت إليه وأنا أفكر، ماذا يفعل هذا هنا؟ صرت أتحسس جيوبي وأنا أنظر إليه منتظراً جوابه.
-جئت أروح عن نفسي قليلاً.
رميت له الولاعة في الهواء، فالتقطها بيده الجرداء وأظافره النافرة.
-ترفه عن نفسك! ولم تجد مكاناً آخر غير هذه الحديقة التي لم أزرها منذ أربعة أعوام، وعند ذهابي إليها لأحظى بحصة من السكينة، أراك هنا!
تابعت حديثي بانفعال: ألم تكتف بما فعلته حتى الآن؟ ثم قل لي كيف هربت من قبضة جبران خليل جبران ومن الإخوة كارامازوف  ومن جهنم نفسها؟
– وضع الولاعة على المقعد وانتبهت أنه لم يشعل سيجارته، وصل إلي كلامه بينما كتفاه يعلوان وينخفضان بتواتر مضطرب، كمن يمشي بساق مصابة.
– ربما أنا شيطان مكروه، ولكنني لم أصل أبداً إلى “الأبلسة” التي وصل إليها بعضكم، أو كثير منكم.
هل رأيتني قبلاً آكل كبد رجل ميت؟ هل وصلك يوماً أنني أعلق رؤوس الأطفال على حبال الغسيل وأتسلى ببقر بطون الحوامل؟ هل حقاً سمعت عني يوماً أنني أحب شارون وأتمناه جاراً وصديقاً؟ شارون يا رجل؟ بالله عليك قل لي هل يتمنى حتى الشيطان أن يكون عرّاب “صبرا وشاتيلا” جاره ومعينه.
تابع حديثه وكلماته يحملها الهواء، بينما خيط دخان بدأ يخرج من سيجارته: أنا حزين وكئيب ومقهور، أريد الرحيل عن هذه البلاد، لكنني أحبها، كيف لكم قلب أن تفعلوا بها ما فعلتم؟ كيف قدرتم على كل هذا الكره؟ لا تصدق ما يقوله أولئك البرابرة عني وما يحاولون إلصاقه بي، كنت ملاكاً فيما سبق، صرت مغروراً فطردت من الجنة، لكني أبداً لم أوسوس لهؤلاء ليكونوا خونة ومعدومي الضمير.
قلت له، وأنا أتحسس الولاعة في جيبي: هيه  أنت، كيف أشعلت سيجارتك، تلفت إلي نصف التفاتة، ثم نفخ ناراً من فمه وتلاشى.