ثقافة

ابن طفيل.. وحي بن يقظان

ابن طفيل (506 ـ 581 هـ) هو الفيلسوف المعروف بصداقته لفيلسوف قرطبة ابن رشد، والذي لم تصلنا من آثاره الفلسفية سوى رسالته “حي بن يقظان” وهي إحدى قصص ثلاث تحمل الاسم نفسه: الأولى: لابن سينا، والثانية:لابن طفيل، والثالثة: للسهروردي.
“حي بن يقظان” هي رسالة يعرض  فيها ابن طفيل، في قالب قصصي شيّق مضمون “الفلسفة المشرقية” التي قال عنها ابن سينا  إنها  عنده “الحق الذي لا جمجمة فيه”. وكان ابن طفيل يعمل طبيباً وموظفاً كبيراً في “دولة الموّحدين” منذ مؤسسها الفعلي عبد المؤمن بن علي، واستمر في عمله في عهد أبو يعقوب يوسف بن عبد المأمون، الذي تولى الخلافة بعد وفاة أبيه، ذلك الخليفة الموحدي الذي كان يجمع بين المعرفة بعلوم الدين والاهتمام بالفلسفة وعلومها. وكان “مأمون” دولة الموحدين يحيط نفسه بحاشية من العلماء والفقهاء والفلاسفة، وكان يهتم بجمع الكتب بمختلف أنواعها، حتى اجتمع له من كتب الفلسفة قريباً مما اجتمع للحكم الثاني المستنصر “مأمون” الدولة الأموية في الأندلس. ولأنه كان يجمع كتب الفلسفة لبحثها ودراستها، فقد طلب من ابن طفيل أن يعمل على تلخيص كتب أرسطو وتقريب أغراضها “بعد أن يفهمها جيّداً ليقّرب مأخذها من الناس”، كون ابن طفيل،  لسبب أو لآخر، انتدب صديقه فيلسوف قرطبة ابن رشد لهذه المهمة.
رغم ذلك، أو بالرغم من عدم إنجاز ابن طفيل للمهمة، إلا أنه كان قد ترك لنا أهم أطروحات الفكر العربي  الإسلامي  “الفلسفي” ونعني بها قصة “حي بن يقظان”. بيد أن أهم ما يمكن ملاحظته بهذا الخصوص، أن هناك علاقة مباشرة بين قصة “حي بن يقظان” التي كتبها ابن طفيل، والفلسفة المشرقية السينوية “فلسفة ابن سينا” وهذا ما يؤكده ابن طفيل نفسه, فقد استهل مقدمة قصته قائلاً: “سألت أيها الأخ أن أبُّث إليك ما أمكنني بثّه من  أسرار  الحكمة المشرقية التي ذكرها الشيخ الرئيس أبو علي بن سينا” وإذا ما حاولنا تلمّس اَلملمَحْ العام لهذه العلاقة، المباشرة، المشار إليها، فسوف نجد ابن طفيل يعرض في قصته، ليس “الحكمة المشرقية” كما ذكرها ابن سينا، بل أسرارها. وفيما يبدو، فإن الأمر  يتعلق، إذن، لا بآراء ابن طفيل الخاصة كما ساد ويسود الاعتقاد بذلك، بل بفهم هذا الرجل لفلسفة أخرى هي بالضبط “الحكمة المشرقية” التي ذكرها ابن سينا وأحال بها إليها.
إن ابن طفيل يتحدث فعلاً في مقدمة القمة عن  حصوله على “ذوق يسير” وإن ذلك هو الذي جعله يشعر بنفسه أهلاً لعرض أسرار الحكمة المشرقية ذلك. لكنه في الوقت نفسه، يؤكد أن طريقه لم يكن هو طريق ابن سينا، ولا طريق الغزالي أو غيره من “منتحلي الفلسفة” حسب تعبيره، في عصره) بل لقد حصل به ما حصل، كما يقول: “بطريق البحث والنظر أولاً ثم المشاهدة ثانياً”. ونحن عندما نؤكد هذا لا نرمي من ذلك إلى نفي التأثير: تأثير ابن سينا أو غيره في ابن طفيل، لكن نريد  التأكيد على أنه بالرغم مما قد يكون هناك من تأثير للشيخ الرئيس (ابن سينا) على ابن طفيل،  فإنه عرض فلسفة ابن  سينا عرضاً أميناً محايداً ولم ينطلق هذا الفيلسوف الأندلسي في تفكيره، ولا في إشكالياته من منطق ابن سينا.
لقد كان الشيخ الرئيس يهدف إلى دمج الفلسفة في الدين، والدين في الفلسفة، ومن ثم تعويضهما بفلسفة دينية واحدة، هي بالضبط تلك التي عرضها ابن طفيل ممثلة في تفكيره وسلوك وطموح حي بن يقظان “بطل القصة”. وقد استقى ابن طفيل هذه الفلسفة الدينية من مختلف كتب ابن سينا المتداولة حينئذ، مثل كتاب الشفاء، وكتاب الإشارات والتنبيهات, وبعض القصص الرمزية كقصة حي بن يقظان وقصة أبسال وسلامان، بل عمد إلى إبراز، العناصر المشرقية فيها. غير أن ابن طفيل لم يقتصر على شرح الطريق الفلسفي الديني الذي سلكه حي يقظان وحده، بل وضع في موازاته طريقاً آخر، هو طريق الدين، طريق الوحي. وفي النهاية يترك الفيلسوف الأندلسي الطريقين متوازيين، كما وضعهما في البداية. ففي قصة ابن طفيل: فشل “حي بن يقظان” في إقناع سلامان وجمهوره بأن معتقداتهم الدينية هي مجرد مثالات ورموز للحقيقة المباشرة التي اكتشفها بالعقل. وعاد إلى جزيرته الأمر الذي يعني “فشل المدرسة الفلسفية في المشرق، التي بلغت أوجها مع ابن سينا في محاولاتها الرامية إلى دمج الدين والفلسفة.أما البديل الذي يطرحه ابن طفيل، بل المدرسة الفلسفية في المغرب والأندلس بكامل أعضائها، فهو الفصل بين الدين والفلسفة.
وأياً كان من أمر الاختلاف أو الاتفاق، أي مع الدمج “دمج الدين والفلسفة كل منهما مع الآخر”، أو مع الفصل “بين كل منها”  فإنه لا بد من الإشارة إلى أن ابن طفيل أهم من قام بعرض الحكمة المشرقية التي ذكرها ابن سينا وأحال  إليها دون أن يفصلها، واضحة كاملة في كتاب من كتبه، أي دون أن يفي بوعد كان قد قطعه في هذا الشأن.

إبراهيم أحمد