ثقافة

“كسماء أخيرة” حزن شفيف ينز من أصابع مغن يائس

“كسماء أخيرة” عنوان المجموعة الشعرية الصادرة  حديثا عن دار” فضاءات” للشاعر السوري عماد الدين موسى. حيث جاءت كاف التشبيه في العنوان الذي اختاره “موسى” كسماء أخيرة، لتفتح احتمالات مغلفة بحزن شفيف وأنيق ينز منها، مقدمة للقارئ الفضاء الخاص بها، فضاء شعري خفيضة سمواته، حاكت أخيلته حروف وكلمات وإيحاءات متنوعة التشكيل ومتباينة، تنحو حيال الدعة والهدوء، تلك الدعة التي تتصالح النفس مع العاصفة التي مهدت لها، بعد أن أنهكتها القسوة، قسوة سنين مرت من حيوات بلد وناسه، جرت تحت ناظري “موسى” بشاعريته المنبجسة من صخر واقع دام وقادم أيام لا تشي مقدماته الصاخبة بما يجعل الشاعر ينظر إلى ما تكتنفه الأيام بين انزياحاتها المتشابهة نحو غد معلق كمشنقة بالبارحة، وبارحة يبدو أنها لا تبارح زمنها المستمر بها، وهذا ما رمى في جوانيات “موسى” حجر فض دوائر كئيبة الرتم، جاعلا من ترجمته الحسية  لتلك الدوائر التي تناهبت أخيلته بتواليها المتقطع والسريع حينا والخافت المستمر حينا آخر، لتبدأ من حيث يجب أن تنتهي، ولتجيء الدائرة الشعرية الأولى من “كسماء أخيرة” “بينما الأزهار تتساقط” وكأنها خواتم لبدايات محسومة سلفا عند الشاعر، الذي قرر أنه ما من جدوى حتى للمحاولة:(ماذا ينبغي أن نفعل؟ وماذا نقول؟ الأشياء بموسيقاها الهادئة إلى زوال محتم، والكائن أيضا)، بعد أن مهد للنهاية القاسية بمفردات يثقلها معنى العدم، ويخيم عليها ظل اليأس بشعبه الثلاث: لا الربيع بأزهاره، ولا الخريف بلا أزهاره،الطفل الذي ينظر في قارب حياته، والعجوز وهو يغمض قلبه كوردة.
قصائد “كسماء منخفضة” جاءت حقيقية في مراميها وانبعاثها الصادق من رغبة في الصراخ على شكل كلمات مكتوبة، متخلية في تجلياتها من الخيال وشطحاته الباهرة ومن مسلمات قصيدة النثر عموما “الإيجاز – والتوهج – الاشراقة والتكثيف – الصور الشعرية الملتبسة واللغة المتحفزة للمواربة والغموض”، دافعة بالعقل ليكون حاضرا وبقوة في عوالمها المحسوسة، إلا أن هذا التخلي عن أدوات القصيدة المنثورة جاء لصالح القصيدة حينا بتبنيها للصدق في ترجمة المشاعر، الذي صار أكثر إلحاحا بطلبه للظهور، حيث أدرك “موسى” أن النتاج الشعري لقصيدة النثر بما له وبما عليه، جاء خجول الأثر في الأجيال التي تربت عليه منذ ستينيات القرن الماضي،والتي تبين لاحقا أنها لم تأخذ من تلك التربية إلا استسهال الكتابة فقط ويبدو أن إلحاح الصدق هذا جاء بمثابة ردة فعل عنيفة من الشاعر على الغموض والالتباس اللذين اكتنفا طبيعة قصيدة النثر طوال تلك السنين، ليوظف الشاعر الصدق في تنقيح قصيدته لا كأحد أدواتها، بل كعلامتها الفارقة، يقول عماد: “أيتها البلاد الواقفة على ربوة أو بركان،صامتة كتمثال وحزينة كقبر مهجور، ما من أثر لجرح في خاصرة أيامنا سوى ندبة غائرة في القلب، سوى نصل في يد الريح ينذر بالعاصفة”.
وحينا آخر جاء مجحفا بحق اللغة التي ظهرت جافة أو مجففة، غير قادرة على ابتكار معانيها الفريدة كما يفترض بها كما أنها افتقدت للمسة الخاصة، التي تصبح بمرور الوقت وتكثيف التجربة الشعرية ملمحا خاصا من ملامح الشاعر، ميزة تدل عليه دون الآخرين. وهذه نتيجة طبيعية عندما يهوي الشعر من مساقط الخيال والتخيل، فالخيال هو من يمنح الشعر وظيفته الأسمى، ولربما كان للواقع القاسي الذي يحيا الشاعر بين مفاصله اليومية شديد الأثر في هذا، حتى أن القصائد التي من المفترض أن تحمل روح العاطفة والحب، جاءت كما لو أنها تخرج من بين شفرات حادة، لا من حبر سائل: “لا تتوغلي بين الأغصان/وهي نائمة/يا الناعمة كأنشودة صباحية/أو كحدّ السكين/ لا تهمسي في أذن الغابة/أغنياتك العذبة/دعي الليلة تمرّ دون كوابيس ودم/ والنهار كذلك.”
جاءت بعض قصائد “كسماء أخيرة” مسرفة بشطحات شعرية مفارقة بمزاجها لمزاج القصيدة نفسه، كما لو أنها جملة اعتراضية خطرت في بال الشاعر وألحت عليه حروفها بالظهور، فبدت على شعريتها نافرة ومفرغة من الموسيقى الداخلية التي تمنح للكلمة روحا وللمعنى ترف التجلي، ففي قصيدة “الوردة صباحا” نقرأ: بفمٍ باسمٍ وعينٍ مواربةٍ/تنظر الصبية إلى بتلات الوردة الباكية/الوردة سر الغابة/وحدها الصبية تدرك ذلك”، سيشعر القارئ كما لو أن سكينا قطعت عليه المشهد الذي افتتحه:موسى”بفم باسم ونظرة صبية، لتأتي الوردة سر الغابة، وكأنها لازمة أكثر منها انفعالا حسيا حارا و صادقا.
حضور غائم أيضا للشاعر “سليم بركات” في نصوص كسماء أخيرة، ورد في التعريفات المغايرة التي وضعها “عماد الدين موسى” لمفردات معينة، على طريقة “بركات” الشهيرة في العديد من أشعاره” المكان رماد الآخرين/الحياة سيرتنا الناقصة/المرايا بيوت أسرارنا” وغيرها.
من كسماء أخيرة، اخترنا مقاطع من قصيدة”حياتي التي في قفة”
لم تعد لدي أشياء حميمة/لم يعد يعنيني شيء/حياتي التي في قفة/ كقط مدلل/اتركها على الحافة/لربما يتلقفها أيّ عابر/باكرا في الصباح/كم فقد شيئا ونسيه /استيقظ/مثلما عاشق يقف على الناصية/أرقب بلهفة الغيمة السائرة كقارب/وكصياد عجوز فقد عاداته/أتدرب على قنص الألم والأمل/لا فرق لا فرق/الحياة كعود كبريت يتهيأ للاشتعال/.
تمام علي بركات