ثقافة

القصيدة الصوفية

عماد الفياض

ولأن الصوفية أصبحت موضة، فإن الساحة الأدبية العربية تغص هذه الأيام بأسماء كثيرة لشعراء يقولون عن أنفسهم إنهم شعراء صوفيون، حتى أننا بدأنا نسمع عن اللوحة الصوفية والرواية الصوفية والفيلم الصوفي وكثير من الأشياء تلصق بالصوفية وهي منها براء. ولو أخذنا الجانب الشعري فقط وتأملنا المشهد ملياً فسوف نجد العجب العجاب حيث الكثير من الشعراء يدّعون كتابتهم للقصيدة الصوفية،  وهم لا يعرفون من الصوفية غير عبارة النفري الشهيرة كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة”. وباعتقادي أن هؤلاء الشعراء حين يدّعون كتابة القصيدة الصوفية فإنهم في عملهم هذا يبحثون عن خصوصية، وهكذا هم يدَّعون خصوصية التصوف وصولاً إلى خصوصية الشعر. ولما كان الأمر مجرد ادعاء لخصوصيةٍ ما، فلماذا لا يبحثون عن خصوصياتهم خارج إطار الصوفية، لأن هذا الادعاء سيقودهم في المستقبل إلى ادعاء خصوصية أخرى…وهكذا.
السؤال المطروح الآن: هل من المعقول أن يكون لدينا هذا العدد الكبير من الشعراء الذين يدَّعون كتابة النص الصوفي والقصيدة الصوفية، بينما نحن نعيش عصر السرعة والاستهلاك، مبتعدين كثيراً عن الروح التأملية التي تُعتبر الرافعة الحقيقية للقصيدة الصوفية، ولأي نص آخر عميق وحقيقي.
هل أنت شاعر صوفي؟ أو بشكل آخر من يستطيع أن يقول عن نفسه إنه شاعر صوفي؟  أعتقد أن كلمة شاعر وحدها كفيلة بإثارة الرعب في النفوس ولا يجرؤ عاقل على ادعائها. أن تكون شاعراً مسؤولية كبيرة، فما بالك بالشاعر الصوفي الذي عليه امتلاك خصائص مهمة وبدونها لن يحصد سوى الوهم. لأن القصيدة الصوفية لا تكون فقط بحشد مقولات معروفة للنفري وابن الفارض والسهروردي، وغيرهم، لأن كل هذا الحشد لا يصنع قصيدة صوفية. القصيدة الصوفية همّ ومكابدة، تأتي من داخل التجربة، وليس من خارجها، لأن الشاعر الصوفي، وهذا باعتقادي ينطبق على كل مبدع حقيقي، لا بد أن يمتاز بمواصفات قل وجودها لدى الآخرين، فمثلاً تجده مسكوناً بالأسئلة الفلسفية والكونية المحيرة، الغامضة والعميقة، يقترب منها، يلامسها ويحاورها باحثاً عن حلول، بينما لا يجرؤ الآخر على ذلك لاعتقاده أنها محرمة، ثم لا بد أن يتجه اهتمامه لأدق التفاصيل وليس لتفكيره حد، عميق، ذو رؤيا واسعة ولديه بصيرة نفاذة وهم وجودي، مفتون في استكشاف البعيد والمجهول، معاناته ليست معاشية آنية، يرى الأبدي ويطرق أبوابه ولا يستوقفه الزائف والزائل ، يمتاز بوجدان واسع الطيف، كيف لا وهو المزود أصلاً بحساسية مفرطة تجاه الأشياء، يبحث عن الاتحاد والتماهي مع مواضيعه المختلفة. وبناءً على كل ما سبق، فإن الشاعر الصوفي يمتاز بخصوصية في التأمل. تنقل إلينا كتب التراث أن ابن الفارض” كان يطرب لصرير الباب وطنين الذباب” و”أنه عشق برنية في دكان عطار”. كما أن ابن عربي رأى ميزاباً في مدينة فاس في حائط ينزل منه ماء السطح مثل ميزاب الكعبة فوقف على تأمله وأجهد نفسه في ذلك. قد يقول قائل إن هذا هذيان، وتخريف، بينما هو في واقع الأمر قدرة على الاستبطان والتأمل في الموجودات وأسرار الكون.
أعود إلى ما يتردد حول لقب الشاعر الصوفي وأقول إن هذا غير معقول أبداً فالساحة الأدبية قد لا تحتمل كل هذا الكم. ثم بصراحة كم عدد الأسماء الشعرية الصوفية  التي تحتفظ بها الذاكرة؟ لو قام أحدنا بعملية إحصائية بسيطة سيجد أنهم لا يتجاوزون أصابع اليد الواحدة، بينما كانت تلك الأسماء بالمئات في حينه.
وأنا من خلال مطالعاتي للمشهد الشعري في سورية أرى أن لقب شاعر صوفي ينطبق على عدد قليل من الشعراء، طبعاً ليس في جميع أعمالهم. والحق يقال إن هناك أيضاً قلة قليلة أيضاً من الشعراء  تتبدى لديهم لمحات صوفية مبثوثة في نتاجاتهم، لكن هذا لا يكفي لتكريسهم شعراء صوفيين. يقول الناقد الراحل يوسف سامي اليوسف في كتابه “الشعر والحساسية” :(وينبغي أن ننتبه لما فحواه أن وجود تناص بين شاعر حديث وبين بعض الصيغ الصوفية لا يعني البتة أن هذا الشاعر يجب تصنيفه في عداد الصوفيين. إن وجود شذرات صوفية في أية قصيدة لا يعني البتة أنها نص صوفي ص161).
اللافت للنظر أن الشعراء الصوفيين الحقيقيين لا يثيرون ضجيجاً يصم الآذان أو غباراً يعمي الأبصار، فهم لا يدعون، بل يعملون بصمت وثقة لأنهم يعرفون أن “الصوفية أرباب أذواق وأحوال، لا أرباب دعاوى وأقوال” بينما أولئك تنطبق عليهم العبارة الصوفية “من ادعى ما ليس فيه كذَّبه شهود الامتحان”.
أخيراً ومن خلال ما سبق أرجو أن لا أُفهم خطأ، إذ إنني لا أنظر نظرة ضيقة، ويقيني أنه على الرغم من كل هذا المعنى الواسع للصوفية فهي ليست حكراً على أحد لا في دين وشعب أو جنس، وهي غير محددة لا في الزمان ولا المكان. المشكلة أن المدعين يشكلون سياجاً من الشوك على هذه الوردة الحقيقية “الصوفية”.