ثقافة

كيف نبتكر شخصيّة دراميّة أو قصصية تمثّل جميع السوريين..

في مرحلة كشف الحساب، إنّما نحنُ دخلنا، لم يعد مقبولاً بعد اليوم شرذمة السوريين وتفتيت مصائرهم، فالاقتتال الدرامي  المناطقي على الشاشة، سواء كانت شاشة صغيرة أو كبيرة يجب أن يتوقّف، من كان لديه ضغينة من هذا النوع، فليتفضّل إلى مكان آخر غير الفنّ فيُخرجها، وليترك الفن لأنّه ليس مجالاً لموضوعات من هذا النوع، فالفنّ يسقط عندما يكون مضمونه ساقطاً، وأسقط المضامين الدرامية هي تلك التي تبثّ الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، بين السوريين.
في الخريطة الدرامية السوريّة، تمّ تقسيم البلاد إلى ثلاث مناطق رئيسية، الشرقيّة التي ارتبطت لهجتها بالمسلسلات البدوية، والتي اشتهرت سابقاً في أيام الجمع، وكانت موضوعاتها تتطابق مع موضوعات القصّة في مرحلة العصور الوسطى، أو مرحلة عصر النهضة، ويعني ذلك أنّ الطبقة المعنيّة بالقصّ يجب أن تكون طبقة الحكّام والملوك، يمكن تلمّس هذه الفكرة في مآسي شكسبير التي تدور بمعظمها في البلاط الملكي عن أو بجانب الملوك، فالمسلسلات البدوية قدّمتْ فئة كبيرة من السوريين- حوالي 4 ملايين- من أبناء البادية، ومثلهم أهالي المدن في المنطقة الشرقية، بطريقة مشوّهة للعموم السوري أوّلاً، وثانياً أمام أنفسهم، بحبكات قصصية لا تخرج عن ثيمة شيخ العشيرة المنزعج من شيخ آخر، أو الفتاة الدخيلة من عشيرة إلى عشيرة أخرى، أو الفارس العاشق الذي يجهد لحل أحجية شعرية تقدّمت بها ابنة شيخ من عشيرة أخرى ومن يحلّها يتزوّجها، وهكذا.
التقسيمة السورية الثانية كانت في ابتكار ما يُسمّى أعمال بيئة شامية، بدأ الأمر بهجائيتين تلفزيونيتين للـ “شوام” وهما مسلسل “دمشق يابسمة الحزن” الذي يدور عن الأخ الماجن والأخت التي يُقتل حبيبها وتنتهي بالانتحار، ثم مسلسل “أبو كامل” الذي أظهر المجتمع الدمشقي مليئاً بالدسائس والخيانات، شيخ الحارة يُضرب في المخفر، الشخصية الرئيسة يقتل العاشق ويدفنه في أرض الديار في تشويه بصري – مضاميني لانطباعات أرض الديار في تنميط ذهني واضح للبيت الدمشقي أنّه مكان جريمة وجثث.
هذا العمل يتنافر ويتنافى مع أعمال أُخرى سابقة له مثل: صح النوم، لم تكن الشخصيات في صحّ النوم شاميّة، بل كانت سوريّة عامّة، ولكنّ مع المسلسلين الآنفي الذكر تمّ اختراع مفهوم “شوام” بشكله الدرامي، وبعد ذلك جهدتْ تلك الجماعة الانتربولوجية المُخترعة في الدفاع عن نفسها، فكان مسلسل أيام شاميّة، والذي يصوّر البيئة الدمشقية فردوساً مفقوداً، وعلى نهجه ظهرتْ أعمال عديدة مشابهة، تعاملت مع زعيم الحارة والقبضاي والحمّام والحلّاق والخبّاز كبديهيّات واقعيّة، فكان كل كاتب جديد يتعامل مع أيّام شاميّة على أساس أنّه واقع حقيقي، وليس واقعاً وهميّاً، مستنبطاً منه شخصيّات وحبكات أعماله الجديدة، وتنسل من خيوطه أعمال عديدة ليس آخرها باب الحارة.
بيئة ثالثة ظهرتْ في نفس فترة دمشق يابسمة الحزن وأيام شامية، ولكن في السينما، إنّها:بيئة الساحل، قدّمتها أفلام عبد اللطيف عبد الحميد؛صبي يتبول في سرواله أصبحَ ضابطاً في الجيش، فتاة تستضيف ابن الجيران من الروزنا، شاب لا يعنيه هروب أخته مع حبيبها، كل ذلك في إمعان على تركيز قيم العار وفق المدينة- وليس الريف- المشرقية، وبذلك أُكملت الدائرة التنميطية للسوريين. واندلعت الحرب المناطقيّة دراميّاً تمهيداً لاندلاعها واقعيّاً. أعمال البيئة الحلبية كانت خارج ذلك التقسيم، فهي قليلة، وأيضاً كانت أقرب إلى جبران الخواطر، وبمجملها لا تخرج عن أعمال البيئة الشاميّة، أي إنّها نسخة شاميّة مع فارق فقط أنّها بلهجة حلبية، تلك كانت تُراعي الخلافات الحلبية- الدمشقية، ليست المتوارثة عن عهد الدول الحمدانية والأيوبيّة والزنكيّة، بل تلك الحديثة العهد عندما وقف بعض تجّار حلب الكبار في وجه الوحدة مع مصر، أملاً في وحدة مع العراق تضع حلب على قارعة الطريق التجاري بين العراق والمرافئ السورية، وبين الدمشقيين الذين كانوا مندفعين للوحدة مع مصر.
لفهم صعوبة ابتكار شخصيّة دراميّة جامعة للسوريين، توحّدهم وتعبّر عنهم، فإنّه يُمكن أن نمرّ على عملين قصصيين من الأعمال الشهيرة في التاريخ، الأوّل رواية بعنوان “لمن تقرع الأجراس” للروائي المجيد أرنست همنغواي، والثاني هو فيلم”كازابلانكا” الصادر عام 1942.
من المعلوم أنّ المجتمع الأمريكي كان مشرذماً مشتتاً، بين شمال صناعي وجنوب زراعي؛ الشمال كان شبيهاً ببريطانيا، بينما الجنوب أقرب إلى المكسيك، ذلك الانقسام كان سبباً ونتيجةً في نفس الوقت للحرب الأهلية الأمريكيّة التي بدأت بقرار لنكولن تحرير العبيد، وانتفاضة الجنوبيين عليه، لأنّ ذلك يجعلهم بلا عمّال مجانيين في حقولهم التي لا يُحيط بمداها النظر، وبعد ذلك ظهرت عناصر عديدة لتفتيت ذلك المجتمع، الأقليّات الكُبرى الكاثوليكية المُهاجرة من الجنوب اللاتيني، ومعها الأقليّات الدينية والعرقية، الهنود الحمر، واليابانيون، والإيطاليون، والأيرلنديون، والهنود، فكيف يتعامل مع هؤلاء روائي مجيد مثل أرنست همنغواي؟وهل كان ليكون مجيداً لولا محاولاته توحيد الأمّة في الأدب؟ لقد كتب رائعته في عام 1940 فقط لتمجيد الشخصيّة الأمريكيّة، وبعدها بعامين فقط ظهر فيلم كازابلانكا: إنّ الفيلم والرواية- وفق ادّعاء شخصي منّي- هما السبب في توحيد الشخصيّة الأمريكية، واقتراح المثال الدرامي الذي سرعان ما يُحاكيه الواقع بأن يقلّده الشعب.
في الرواية، لمن تقرع الأجراس، يصل روبرت، الشاب الأمريكي المنخرط في الحرب الأهلية الإسبانية لنسف الجسر الذي سوف يستعمله الأعداء إمّا للانسحاب، أو للإمداد، فيتعرف على المقاتلين، ثم تنتهي القصة في زمن واقعي يستغرق ثلاثة أيام ونصف، الموقف الأخير في الرواية هو لروبرت، يقبض على بندقيّته ويواجه مشاعر الإغماء بانتظار ظهور جنود الأعداء. لقد أظهره همنغواي كشخصيّة مثاليّة تامّة شجاعة أسطوريّة مثيرة للإعجاب، لا يأبه للجبن والخوف والإشاعات والحب والأقاويل، شخصيّة عظيمة تمثّل جميع الأمريكيين.
نفس الحبكة والثيمة في فيلم كازابلانكا؛ريتشارد الأمريكي يمتلك ويُدير حانة ومقهى اسمها American coffee في الدار البيضاء- كازابلانكا- في المغرب، ألمان وإيطاليون وبلغار، عرب وأتراك، روس وأوروبيّون، نماذج بشريّة رديئة، باستثناء ريتشارد وصديقه عازف البيانو الزنجي سام؛ وهما أمريكيّان مثاليّان بعيدان عن البلاد، لا يكمن الإعجاب إلا بهما.
إنّ شخصيّة روبرت في “لمن تقرع الأجراس” وشخصيّة “ريك” في كازابلانكا، يُمكن أن تُشكّلا مثالاً أدبيّاً وسينمائياً في ابتكار شخصيّة سوريّة عامّة، تكون معبّرة عن جميع السوريين، توحّدهم وتشدّ أزرهم معاً، لا يسأل القارئ وهو يقرأ عنهم، أو المُشاهد وهو يشاهدهم على الشاشة، لا يسأل ذلك السؤال السافل: “هاد من وين؟!”
السؤال الذي كرسته وبشدة بقصد أحياناً وعن جهل شديد أحياناً أخرى، العديد من الأعمال الدرامية السورية، إن كان في السينما، أو التلفاز، أو المسرح!.

تمام علي بركات