ثقافة

زمن محمود درويش

«تلك أرواح تغير شكلها ومقامها»، ما ينطوي عليه استدعاء زمن محمود درويش، بصرف النظر عن أننا نختلف عليه أو معه، وفي سياقات محددة، ولكن لا مناص لنا من القول: إن محمود درويش هو تعبير عن جسارة الروح الفلسطينية بما دوّنه في ذاكرتها، كوني الاتجاه، وخصوصي التعبير، فهو أحد بُناة الروح الفلسطينية المعاصرة، بل الجسر الذي عبرت عليه ثقافات إنسانية، ليظل الصوت الخالد، وإيقاع القضية الفلسطينية في تحولاتها وعلاماتها وإشاراتها ومنعطفاتها الكثيرة، وذلك ما ترجمته أعماله الشعرية الممتدة زمناً، والمتجذرة في الوعي الجمعي الفلسطيني.. في استعادة -درويش- لمستقبل القصيدة بوصفها مرايا الروح، وشغف الأسئلة الكبرى التي كانت على الدوام في صلب مشروع الشاعر، وفي ماهية إبداعه المختلف والمتنوع والثري للغة والأفكار، فصاحب سجّل أنا عربي وبخطابه المباشر، كان هو الكينونة الفلسطينية التي عبّرت عن صيروراتها المقاوِمة، نشيداً للقضية، وبوصفه أيضاً خط دفاع ذكياً عن اللغة التي يرى درويش أننا من نرثها، وعن الحاضر الذي نصوغه، وعن المستقبل الذي نذهب إليه.
في مُنجز درويش الكثير من العلامات التي تشي بوثبة الروح نحو المطلق، وبتعدد أشكال الرؤيا للوجود والحياة والمصير في حقل دلالات “تتصادى” فيه السيرة التراجيدية للقضية الفلسطينية ولملحمتها المعاصرة، كتجل بصوت الشعر/الجوهر عن حضور الفلسطيني العربي إنساناً، ومن ثمّ مقاوماً يبرع باشتقاق “غير طريقة” لتأكيد هويته وحضوره المخترق للغة والتاريخ بآن معاً، بل إن ما انطوى عليه -ذلك المُنجز- في ضوء استقراء مستوياته الفنية والفكرية والجمالية، ليضعنا في تلك البنيات الدالة بمنظوماتها الإشارية، وبمدى قدرة الشاعر على أن يحرر المعنى في قصائد الرؤيا، تلك القصائد التي أصبحت مُدوّنة الروح الفلسطينية المعاصرة بغنائيتها وقدرتها التعبيرية على صياغة ثقافة الحياة المتماهية بسيرة الإنسان وبأرضه وبذاكرته وبأحلامه وبهواجسه الكبرى، «على هذه الأرض ما يستحق الحياة».
ولعل الأرض التي كانت قصيدته الكبرى لم تكن مجرد حجارة وأوابد، كانت إنساناً حضارياً ممتداً في أزمنته كلها، كانت فلسطين التي قاربها الشاعر محمود درويش بخطابه الشعري، والذي أطلّ منه على خطاب الهوية والكينونة والتاريخ والثقافة الفلسطينية بأبعادها الإنسانية والكونية، خطاب مفتوح بالضرورة على شعر يعبر إلى جوهره “المركوز” في الوعي، إذ الشعر ليس سوى صوت الجوهر، وأثر الإنسان قريباً أو بعيداً، ظلاً مضيئاً، أو لغة، إذ اللغة هي الكينونة بالذات التي عبر إليها الشاعر محمود درويش بمدوناته ليكون هو أثر الفراشة الذي لا يزول.
كان درويش هو قصيدته/ ملحمته في أبعادها تجليات الصيرورات الفلسطينية، كانت خلاصتها زمن درويش كواحد من عمالقة الشعر العربي، ففي مرايا حبرهم أخذت الحياة كل استعاراتها وانفتحت على مجاز القول الشعري، ليكون ذاكرة الأجيال الفلسطينية، ذاكرة مستقبلها، وكيف يأتي منه المقاوم شهيداً.
كان شعره تمائم وتعاويذ لرحلة الكينونة وانفتاحها على مدارات الكلام السامي، هكذا ترك درويش لنا مآثره انفتاحاً على كل الدلالات الضرورية، والتي شكّلتها رحلته «الزمكانية»، وصولاً إلى رقاده على تلة في الكرمل، كانت تنتظره، وكان أن استشرفها في أواخر دواوينه، لاسيما حينما حدد إقامته النهائية في بضعة أمتار من الأرض، لكن إقامته الشعرية هي من بدأت من جديد لتُعلن أن زمن محمود درويش هو الزمن الذي يبتدئ بالضرورة ولا ينتهي، كما زمن مجايليه وأجياله الشعرية، أولئك الذين نصفهم اليوم “بمهندسي” الروح الفلسطينية المبدعة، تلك هي حقيقة الأدب حينما يظل الأكثر حضوراً، ليس في استعادته في لحظة مختلفة، وفي سياق مختلف، وفي زمان مختلف، بل لأزمنة قادمة مازلنا نتعرفها كأمثلة على الوجود والمصير، لكن كبرى الأمثلة أن فلسطين التي تستحق الحياة تنهض الآن بأسمائهم وعلاماتهم لتكون الحقيقة الكلية بمفرداتها كقصيدة كونية مازال الشعر الفلسطيني في إثرها، لتظل قضية لا تموت، وتظل الأرواح التي عبرتها، هي في تغير الشكل والمقام.

أحمد علي هلال