ثقافة

العالم الغرائبي في المجموعة القصصية “وكنت شاهداً”

إن الأديب نصر محسن في مجموعته القصصية “وكنت شاهداً” يبني مداميك قصصه من العالم الغرائبي والفنتازيا الذاهبة بعيداً في غير المألوف. وفي محاولة منه لجعل هذا الغرائبي مألوفاً, فإنه يتكىء على الموروث والحكاية الشعبية البسيطة لكنها المشحونة بالمعنى. نعثر في قصصه دائماً على مخاتير ومشايخ وحكماء, يضعهم عادةً في الواجهة الخادعة والبسيطة للقصة, التي تظهر على السطح, لكن ما تخفيه القصة يحفر في عمق البنية الاجتماعية والسياسية المنخورة, المبنية على الوهم الذي لا يصمد أمام النقد. وهذا ما نجده في قصص: “الأوفياء/ هلوسات رجل طيب/ شيء من الجحيم/ أجنحة بلون الكرز/ تحولات أبو المراجل/ قداس الخروج/ الرقص تحت الجميز”.
وبالإضافة إلى ما سبق, فإن الأهمية المضافة إلى هذه القصص تتمثل في تقنية العتبات النصية التي تبدأ بها: “وسيأتي يوم يتكلم فيه الناس من أكتافهم, تمتلئ الأفواه بالقواطع, والأيدي بالحراشف والمخالب وستتقلص العيون كثيراً…22 “. وأيضاً كما في هذه العتبة” وكان عصراً مطيراً, انفلتت فيه ميازيب السماء دون توقف, وصارت الأرض مثل اسفنجة كبيرة مثقلة بالماء, امتلأت الأنفاق والسراديب والأقبية…44 “.
كما يتضح أن هذه العتبات مفتوحة أولاً على التوقع الذي يوسِع فضاء القصص, ويطلق العنان للمخيلة, ثم ثانياً أنها تبدأ من الاستغراق والذهول, ومن داخل هذا الاستغراق يأتي الصوت الخارجي المحمول على السؤال, والذي يعمل كجرس إنذار, يقوم بانتشالنا من هذا الاستغراق:”.. ماذا تقرأ..؟” أو “.. ماذا تقول ياعم بصير..” بالتأكيد هذه العتبات النصية الافتتاحية ليست سوى نبوءات, واستبصار بما سيأتي, محمولة على العالم الغرائبي, بالإضافة إلى هذه الأسئلة التي تشي بأهمية المعرفة, كما في ماذا تقرأ؟ أو حين يسأل: ماذا تقول يا عم بصير؟ إن اختيار اسم  بصير هنا لا بد أنه يعني البصيرة, التي تفتح باباً للمعرفة.
أيضاً ما يميز قصص مجموعة “وكنت شاهداً” هو هاجس الاكتمال, إذ عندما  تكون قصة ما ذات نهاية مفتوحة, فإنه يتم إغلاقها في قصة أخرى وهكذا تكتمل دوائر السرد.
مثلا ما لم يكتمل في”هلوسات رجل طيب” يكتمل في قصة”كتاب الغمر” ليصبحا قصة واحدة. أيضاً هذا الهاجس بعدم الاكتمال تبدأ خيوطه من قصة” الأغنية قبل الأخيرة” حيث البطل فريد الذي يرفض التوقف عن الغناء, نجده يتسرب إلى قصة “صهٍ” لكن هذه المرة بشخصية موفق الذي كان يغني, إلا أنه صمت أخيراً عن الغناء, ثم لتتسرب إلى قصة “الرقص تحت الجميز” التي يمنع فيها الغناء بالرغم من انه رغبة جماعية.
إن هذه المتوالية القصصية ليست سوى محاولة في البحث عن النهايات وتتبع مسارات الأبطال ومصائرهم. ثم حين البحث عن سر هذا الغناء المُشتهى الذي قُطع لسان موفق بسببه, وعُلق رأس حرفوش من شجرة الجميز بسببه لأنه تجرأ على رفع صوته بموال, نكتشف هذا السر في قصة “الرقص تحت الجميز” التي مُنع فيها الغناء بفرمان. هكذا هي قصص الأديب نصر محسن, مغلفة ببساطة سردية: مكانها قرية ما من هذا الريف العربي, وشخوصها مخاتير ومشايخ, وحكماء, لكنها رغم بساطتها فإنها مشحونة بلغة لماحة, إشارية, سرانية, طافحة بالنقد المجتمعي والسياسي, والغناء الممنوع في قرية الميالة المتخيلة في قصة “الرقص تحت الجميز”, ليس سوى رغبة عميقة في التعبير والحرية. ثم إن المفارقة, والكوميديا السوداء تكمن في شجرة الجميز الكبيرة, التي أصبحت مصدر شؤم وفزاعة لأهل الميالة, لذلك طالبوا بقطعها, لكن دهشتهم كانت في القرار المفاجئ بزرع أشجار جميز في كل مكان”. ومضى أصحابها بصمت فاضح لخوف مصدره شجيرات مشؤومة 90″. بالطبع ليس خافياً أن شجيرات الجميز المزروعة حديثاً في قرية الميالة ليست سوى فزاعات إضافية, حيث أصبح لكل فرد شجرة.
كما أن قصص نصر محسن مسكونة بالتوجس والارتياب, فهي مسكونة أيضاً بالإنسان ومنحازة إليه. في قصة “نداء الصلصال” اعتاد النحات طلي لوحاته بلون الصلصال بعد أن يكملها. وحين سُئل عن السبب, قال:”إن لون الصلصال يذكرني بقريتي التي أحبها جداً”. بالطبع هذا ما يطفو على السطح, لكن لو ذهبنا بعيداً نكتشف أن لون الصلصال يُذكر بالإنسان الذي خُلق من طين. لكن مشكلة هذا الفنان تتمثل في كونه كان مسكوناً بالخوف, إلى أن وجد مقتولاً أمام تمثال الملكة الذي نحته, ولا يتم فك اللغز إلا بالعودة إلى الجمل الإشارية السريعة في القصة, وتحديداً عندما سأله صديقه “أما زال الأوغاد يلاحقونك..؟”. رد عليه “بلى بالأمس كادت طلقات أحدهم أن ترديني”. وحين يرد صديقه “أنا سأبلغ الشرطة هذه المرة..63 ” نكتشف أن هؤلاء الأوغاد هم المتشددون, التكفيريون الذين يرفضون أي إبداع. لأن كلمة الشرطة هنا لا بد أنها تعني الشرعية مقابل خارجين عن القانون.
أيضاً لا بد من القول أن هذا الغرائبي ليس سوى قناع وتقية يختبئ وراءها الكاتب, يريد من خلالها قول شيء ما, وخلخلة بنية ما, فينأى بنفسه عن الراهن, ويذهب للبعيد والغرائبي, إلى زمن مضى, مع شخوص من زمن مضى, لكن هذا الزمن الذي مضى ما زال يتنفس رائحة الحاضر.
ولو عدنا إلى العنوان “وكنت شاهداً” فإننا لن نعثر عليه كعنوان لإحدى القصص, ولا حتى لجملة عابرة بين السطور, وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على انخراط الكاتب في الحدث, بل هو جزء منه, مراقباً وشريكاً, وما يؤكد هذا, وجود أنا المؤلف المتغلغلة, والتي تبدأ بها بعض القصص أيضاً.
ثم ما تتميز به مجموعة “وكنت شاهداً” القصصية يتمثل في تعدد الأصوات, وذلك بإعطاء الشخصيات الحق في التعبير, وهكذا ما لم يتحقق في الواقع تم تحقيقه في الحوار, هذا الذي فتح فضاء حرية.
*”وكنت شاهداً” مجموعة قصصية للأديب نصر محسن/ صادرة عن اتحاد الكتاب العرب- دمشق2002
عماد الفياض