ثقافة

في رصد لحالة المهاجرين السوريين.. حـكـايــة عـن الـوجـع والـهـذيــان والـرعـب

قطار كما القطارات التي نعرفها، عربات عدة متصلة ببعضها البعض،  يسير على سكة حديدية،  وهو،  أي القطار، مهمته تقصير المسافات وإيصال المسافرين إلى وجهتهم بكل أمان، لكن قطارنا المقصود ليس كذلك.
القطار يقف في واحدة من المحطات الموجودة على أطراف إحدى الدول الأوروبية،  حيث يتجمع اللاجئون السوريون بالآلاف، يقف القطار لـ10 دقائق لتبدأ أمواج من تدافع الآهات واللوعات المحروقة نحو بواباته الصغيرة، أياد غضة تختنق بين الزحام وعيون أطفال ترنو نحو الخلاص،  فيجيء الخلاص بالموت تحت أقدام من يريد الصعود إلى القطار ولو فوق جثامينهم الورد وتحت أنظار عيون أمهاتهم العاجزة إلا عن الصراخ بالدموع بعد أن اختنق الصوت.
تمتلئ عربات قطار الهذيان هذا بمن استطاع لركوبه سبيلا، وبعد أن تعلن صافرته أن أبوابه أغلقت ومواقيته أزفت،  يغيب ذيله ويصبح نقطة زرقاء تتلاشى في الأفق، ومن نوافذه تخرج الأيادي الملوحة للتعب كما لوحت للعذاب.
على الرصيف يقف الأب الذي شيع منذ لحظات عيون طفله المسجون بزجاج النوافذ، ما من حيلة باليد، فلا هو بقادر على اللحاق بعضلات القطار الراكضة، ولا هو يعرف إن كان سيلتقي بمن ضاع من أهله اليوم في القطار. وكأنها أغنية حزينة أو فيلم طويل لأسى لا ينتهي، لرحلة بدأت هرباً من الموت، لكن من خاضها لم يكن يعلم أن الموت هو الموت أينما حلّ وأينما يمم وجهه.

أعضّ أصابعي ندماً
أم محمد سيدة سورية خمسينية، كانت تقطن وأولادها الخمسة في ريف القنيطرة،  في البيت الذي تربت فيه وعاشت طفولتها بكل ما للطفولة من معنى، عاشت أيام زواجها أيضاً، تزوجت ابن عمها وأنجبت منه أطفالها الخمسة،  والرجل الذي كان يعتاش وأسرته من نقل الحليب ومشتقاته إلى القرى المجاورة،  خرج ذات رزق ولم يعد.
تقول أم محمد لـ “البعث”: لم يعد زوجي وطال انتظاره،  سُرقت أبقارنا ونُهبت محاصيلنا من لصوص ثورة الخسة هذه، وصار الرعب هو من يحكم حياتنا..  مرت أيام طويلة قبل أن تخرج هي أو أحد من أسرتها خارج البيت،  تتابع أم محمد: من كانوا بالأمس زعران الحي ولصوصه صاروا اليوم ثواراً،  كيف ومتى لا أدري،  والله يا”يما” هكذا نادتني،  منهم من نعرفه حق المعرفة،  فاشل وأمي وجاهل وعليه أحكام بجنايات سرقة وسلب بالعنف وقضايا مخدرات،  بعد أن بدأ هذا الجنون في الوطن،  صاروا “ثواراً” وحملة سلاح،  وكما تعرف “يما” “السلاح بيد الولد يجرح”،  وعوضاً عن أن يدافعوا عن بيوت أهلهم وجيرانهم وأقاربهم ضد اللصوص والمرتزقة القادمين من كل حدب وصوب،  كانوا أول من سطا عليها،  ارتدوا الأقنعة السوداء وأطلقوا لحاهم وصاروا يهتفون باسم الله الذي لم نسمعهم يوماً يذكرونه ولم نرهم يدخلون بيتاً من بيوت الله،  كما تعرف نحن أهل القرى نعلم أحوال بعضنا البعض جيداً.
بعد غياب ربّ الأسرة الطويل عنها وتعرض ممتلكات أم محمد ومصدر عيشها للسرقة،  أخذ ثوار الغفلة ابنها الكبير “محمد” البالغ من العمر سبعة عشر عاماً تحت قوة السلاح لينضم إليهم، وصار لا بد من الرحيل عن المكان الذي ربت فيه تلك السيدة السورية فرحها طفلة،  وهاهي تولمه فلذة كبدها ألما،  سرت تحت جنح الظلام مع أحد الأقارب الذي تدبر لها الوصول إلى دمشق مقابل “25000” ليرة سورية،  وقصدت أقارب زوجها في مخيم اليرموك، الذي كان آمناً حينها، لتدور دورة الزمان ويصبح المخيم كتلة لهب مشتعلة.
عرفت من جيرانها وأقاربها أن “أوروبا” تفتح أبوابها للاجئين السوريين،  فما كان منها إلا أن خرجت بمن تبقى من أسرتها إلى بيروت على أمل أن تكون النجاة هناك، حيث ستنطلق من بيروت باتجاه واحدة من دول أوروبا.
بدأت الرحلة في البحر،  “جلسنا في قارب لا يتسع لعشرين شخصاً وكنا أكثر من مئة وخمسين، ربطت أولادي بجسدي فالقلب لم يعد يحتمل أي خسارة أخرى،  وقلت لنفسي من يقع منهم نقع جميعاً وهكذا يكون خلاصنا واحداً، مرت ليال وأيام عليها وعلى من معها في القارب بلا طعام ولا شراب،  والرحلة التي قيل إنها لن تستغرق أكثر من يومين،  تجاوزت الأسبوع.
وصلت أم محمد وأبناؤها إلى الوجهة التي حددها قائد المركب،  لتُفاجأ أن أمامها ما لا يقل عن عشرة كيلو مترات يجب عليها أن تقطعها سباحة. بدأت الدموع تنداح بحرقة من عينيها وعجزت عن الكلام، فصغيرتها ذات الثلاث جدائل من العمر،  أخذها البحر.
ماذا يستطيع أن يفعل المالح في عينيها أمام المالح في المحيط الهادر؟ “كنت أقرأ الفاتحة على روحها البريئة وعلى ظهري ولدي وما يبقيني عائمة بين الأمواج المتلاطمة هي قطعة فلين إن ذهبت غرقنا جميعاً.
انتهت تلك الرحلة البحرية،  ووصلت أم محمد وما تبقى من أفراد أسرتها إلى منطقة حدودية فاصلة بين مقدونيا واليونان، وهناك كان عليها أن تنتظر مرور القطار الذي سيحملها إلى أوروبا التي لا تحتاج إلى تأشيرة للتجول بين مدنها.
طال انتظار القطار وعلى أطراف انتظاره تجمع السوريون بأرواحهم التي التهمها الخوف والحزن والأسى، وأخيراً لاحت غرة القطار المنجي،  وهاهو يبطئ في سيره ليقف، وما إن وقف حتى هجمت جموع هائجة نحو أبوابه الصغيرة، تدافع الناس فوق بعضهم البعض،  كلٌّ يرجو لنفسه خلاصاً فردياً، ولو كان هذا الخلاص على حساب أرواح إخوته وأبناء بلده.
“حاولت الوصول مزاحمة أكتاف الرجال وهروات رجال الأمن الموجودين في المنطقة،  وتمكن أحد أبنائي “9سنوات” من الصعود للقطار، إلا أن القطار اكتفى منا واكتظت عرباته بأجساد منهكة وأرواح مكلومة،  لتعلن صافرته أنه سيتابع طريقه”.
بقيت أم محمد وحيدة على الرصيف ومن النافذة خرجت عيون ابنها السجينة بالزجاج،  تلوح بالدموع،  فلا هي تستطيع الصعود إلى القطار الذي بدأ بالابتعاد ولا ابنها بقادر على النزول منه.
بكاء أم محمد ونشيج صوتها المقهور لن يعيد أسرتها وبيتها وبقراتها وأرضها السليبة،  حرقة قلبها لن تعيد زوجها المخطوف ولا ابنها الكبير الذي لا تعرف إن كان على قيد الحياة،  لوعتها وكبدها المفتت لن يرجع روح ابنها من قاع البحر،  وعلى تلك الحدود التي لا ترحم ذهبت أم محمد لتبحث عن طعامها من الحشائش التي كانت متوفرة وبكثرة في حقلها الصغير خلف بيتها في ريف دمشق: تخيل يا “يما” تلك الأراضي لا تنمو بها الهندباء ولا الخبيزة ولا السلقين،  كيف يحيا هؤلاء الناس دون هذه الحشائش التي تقيت القلب.
ما زالت أم محمد بانتظار قطار الموت هذا،  كل يوم تصيخ السمع لصافرته التي تعلن قدومه،  تنظر إلى نوافذه لعلّ نظراتها تلتقي بنظرات الباقي الوحيد من أسرتها،  لكن القطار مرّ سريعاً، وانصرف المسافرون إلى أيامهم وأم محمد لا تزال تنتظر.  هو قطار الخيبة والدموع والفرقة والأسى،  قطار تفرق الأحباب والخلان والأسرة الواحدة،  قطار الموت السائر على سكة ضياع وغربة، لا وجهة واضحة المعالم للوصول، ولا مسافرين انتقوا رحلتهم وتوقيتها وزمانها ومكانها، إنها مواقيت غربة وألم وحزن لا ينتهي،  وشتات يوجع عظام الأرواح مشهده المفجع.

تمام علي بركات