ثقافة

نوبات حنين

لوردا فوزي
مع مرور أربع سنوات ونصف على ما يعيشه السوريون من حرب وآلام وتغير في الأحوال، تعصف بهم نوبات حنين إلى أيام خلت كان الحب هو عنوان العيش والتآخي وخبز العمر، ومعظمنا ينظر إلى الوراء بحسرة يرافقها في أغلب الأحيان الدموع، فما فقدناه لم يكن عزيزاً وغالياً وحسب، بل كان حياةً، والغريب أننا نلتفت بخجل إلى أيامنا السابقة، وكأن الفارق بيننا وبينها دهوراً وليس سنيناً أربع لا غير. ويضج كتاب الحنين بالكثير من الصفحات، فمثلاُ لا يكف السوريون عن الحنين إلى أيام كانوا ينتقلون فيها من محافظة إلى أخرى في أي وقت يحلو لهم حتى لو كان في ساعة متأخرة من الليل، دون أن يحسبوا حساباً لقطاع طرق أو مجموعات مسلحة أو تنظيمات إرهابية فهذه “المفردات” لم تكن موجودة بالنسبة لأي سوري إلا في أفلام الخيال، ولم يخطر في بال أي منهم أن يتحول الخيال يوماً إلى حقيقة نعيشها بأبشع صورها، ويصبح السفر من دمشق إلى اللاذقية أو حمص مغامرة غير محسوبة النتائج، وضرب عالٍ من المخاطرة، ولعل الشيء المحمّل بالخيبة والمترع بالفجيعة هو أن تصبح بعض المناطق محرمة على السوريين أنفسهم، ورغم كل ما تحمّله السوري ولكن تلك الأخيرة هي الضربة الأكثر إيلاماً وخيبة.
ما يحن إليه السوريون أيضاً هو المشهد القديم  لـ”المائة ليرة سورية ” وهي  معززة مكرمة، تنقل عدوى هذا الإحساس لحاملها الذي كان باستطاعته “وهي معه” شراء أصناف مختلفة مما يريده، وكان الطفل الصغير في ذلك الوقت يبتهج لرؤيتها وكأنه حصل على كنزه المفقود، أما اليوم فلم تعد تعجبه أي فئة من النقود مهما ارتفعت قيمتها، وهو ليس ملوم على هذا طالما يرى بعينه ما وصل إليه حال أخواتها من نفس العائلة النقدية والذي من المفروض أنهم “أكبر قيمةً وقدراً”.
وإن كان الحنين في تلك الحالات محملاً بأمل – ولو قليل- للعودة إلى زمن سوري جميل، فحنيننا الأقسى هو لأشخاص غادرونا ولن تحمل لنا أيامنا القادمة منهم وعنهم أي خبر أو احتمال رؤيتهم مهما قدمنا من قرابين، أياً كان نوع مغادرتهم لنا، حتى أن الذكرى قد تتلاشى في بعض حالات الغياب، فهناك من غادرنا بسبب رأي خالفناه به، أو غادرنا بحثاُ عن ملجأ آخر لأسباب وظروف لا نريد لومه عليها، لكننا نخبره أن حنيناً عالياً لوطن لن يجد بديلاً عنه سيجتاحه في غربته، وأما حنيننا الأكبر فهو لتلك الأرواح التي كان بانتظارها قدر يليق بطهرها، لكنها غادرتنا بارتكاب يد سوداء ما اعتادت أن تحب النور أو ترتاح لرفقته، ولهم نقول: لكم وحدكم يغمرنا الشوق وينثر عبقكم في حنايا قلوبنا، فدماءكم وحدها تستحق الحنين.