ثقافة

مقاعد الحياة تبكي وجع غيابهم

عاد أيلول بوجهه الجميل، عاد كترنيمة الشتاء ليبشر بقدوم قصيدة غناء الأحرف تسأل عن أيلول، عن جماله، عن أوراقٍ كانت الأجمل لكنها تناثرت كما تناثر الشهد الطفولي وبقيت ذكراهم شاهدة على غصة الغياب، على جراحات قائمة كركنٍ من الصلاة على روح الطفولة، على أوقاتٍ كانت تفيض بألق المحبة، على شوقٍ ما زال ينبض بنا، ما زال الزمن يسألُ عنهم؟! يسألُ عن مقاعد الحياة، تلك المقاعد التي جلسوا عليها، على كرسي الحياة ومقاعدها، كانوا كبراعم الأمل، وأبجديات الفرح الغائب.
عاد وجع غيابهم  كفجرٍ اغتيلت صلاته، كانوا الوقت وأمنياته، ما زالت مقاعدهم الدراسية تسألُ: هل يأتي بهم أيلول مجدداً إلى هنا، إلى مقاعد الفرح التي ما تزال تنتظرهم، تحنُ لسماع أصواتهم وترانيم الفرح الموغل في ألق الذكرى.
عادت الفصول لتسأل عن طفولة الحياة، عن أبجديات من المرثيات لا تنتهي أبداً، هنا كانوا عنوان المستقبل، ضحكاتهم مازالت ترن هنا وهناك، هنا كانوا قبل حرية الهاون وقذائف الموت المرعبة.
عاد أيلول حزيناً كريحٍ تسأل عن طفولة الحياة، كيف انبرى الزمن دونهم، دون ضحكاتهم، انبرى يتيم الأغاني والأهازيج المدرسية، كيف لنا أن ننسى تواريخ المجد المتكئ على حلمٍ كانوا هم أجمل كلماته وكل حروفه، المجد المتكىء على كل عيدٍ إذا حبا، وعلى كل وقتٍ نضبت منه ضحكات طفولة الأيام القادمة، كأنها لا تعرف لماذا تُذبح الآن كل الأوقات التي شُرد ضوء نهارها هناك، وبعثرت كل لغات المحبة، وكذلك بُعثرت على حدود الأمل المنتظر. على حدود المدى الواسع تركوا دفاترهم وأقلامهم، تركوا كتبهم وحقائبهم المدرسية، تركوها تستريح على شط الوجع المشتاق لهم، تركوها ملصقات ورسومات وردية الألوان والأشكال بها يتألق وهج الحياة، تركوها لرفاقهم الصغار بناة الأمل الهائم بهم ومن أجلهم، كل شيء أصبح هائم الذكرى هائم البشائر كوجه أيلول عندما يدخل صغارنا إلى مدارسهم، إلى حيث يجب أن يكونوا، رغم ويلات الأزمة فنحنُ كنا وسنبقى كقرص الشمس، سنبقى هنا على شواطئنا نحن ومقاعد الحياة، سنبقى نسألُ بأي ذنب قتلت الطفولة هنا، ولِمَ ذبحت، سلوها كيف فُجرت وتحولت إلى أشلاء؟! كيف صُلب الوعد وأصبح يستلقي في التوابيت، ها قد عاد أيلول ومقاعدهم تنتظر، وصفوفهم تسألُ: هل حقاً ماتت طفولة النهار؟! هل حقاً أصبح الوجع في توهج الذكرى؟!
عندما ندخل الصفوف لا بد أن نسأل عمن كانوا فرحة الحياة، كانوا قصيدة الحياة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، قصيدة الشوق العظيم لكل ما هو أجمل.
كيف لقصيدة الحياة أن تلتحن من جديد دون ضحكاتهم؟ كيف لذاك الفرح أن يكتمل قمره من دونهم؟ ماذا نجيب رفاقهم وقد سألوا عنهم؟.
لقد عادت الفصول الزاهرة من جديد لتعود الدورة المدرسية إلى سابق عهدها، إلى سابق ارتقائها وتألقها، عادت رغم غصات الغياب على ملائكة الطفولة ملائكة الشهادة، لترسم دائرة وردية الشكل والأشكال، لترسم لنا خطوط المستقبل النير المشرق، كما وجه الطفولة البريئة، الطفولة التي لا تهاب الموت. وإن كان جرح الغياب هو الأكثر إيلاماً، فإن قوة التحدي والانتصار بالعلم والعمل هما ميزتان لا يمكن السمو والارتقاء إلاّ بهما، ولا يمكن أن تزهر الحياة إلاّ من خلال عيونهم الملونة بعظمة الحياة والمستقبل.