ثقافة

«المهاجرة» رؤية بصرية تجسد ذاكرة الحرب وتداعياتها عبر قصة حب مؤلم

لم يخطر في بال “إيفا” بطلة فيلم “المهاجرة” “The Immigrant” للمخرج الأمريكي جيمس غراي الذي عُرض في مهرجان أفلام حديثة الذي تستضيفه دار الأوبرا بدمشق، أن ماينتظرها من أحداث سيبدد أحلامها كلها ويرميها في بحر من ظلمات القهر والألم، فالفيلم يعود في أحداثه إلى أوائل القرن العشرين، وبالتحديد في مدينة نيويورك التي كانت في ذلك الحين وجهة وأمل آلاف المهاجرين إليها من شتى أنحاء العالم. “إيفا” المفعمة بالأمل يظهرها الفيلم وهي تعبر حاجز جزيرة إليس بجانب تمثال الحرية حيث يتوجب على كل المهاجرين الخضوع للفحص، بكل صوره وقياساته ثم الموافقة عليهم إن كانوا أهلاً للهجرة أم لا.
من هنا تبدأ الأحداث في “ستيتن آيلند” وبشكل أكثر تحديداً مع صورة تمثال الحرية وما يرمز إليه، ليتركز مسار الفيلم إثر ذلك على حكاية “إيفا”، أدت دورها الممثلة “ماريون كوتيار” الفتاة البولندية الجميلة الهاربة من هول الحرب إلى عالم جديد تنشد فيه السلام والأمان وتحقيق أحلامها برفقة أختها “ماغدا”،جسدت شخصيتها الممثلة “أنجيلا صرافيان”  وحينما وصلا إلى جزيرة إليس، اكتشفت السلطات أن أختها مريضة بالسل وقررت احتجازها، وانفصلت الأختان عن بعضهما، فانطلقت “إيفا” في شوارع مانهاتن وحدها بينما أختها بقيت في الجزيرة قيد الحجر الصحي ممنوعة من الخروج. ومع بقاء “إيفا” وحيدة بلا مأوى وبعد أن فقدت الأمل أن تكون مع أختها مرة ثانية، لم يكن أمامها إلا أن تلجأ إلى برونو أدى دوره الممثل (جواكين فينيكس) الذي يستغل حاجتها له فيجبرها على الانضمام إلى مجموعة النساء اللواتي يوظفهن في ممارسة البغاء، ومأساة “إيفا” تبدأ من لحظة الموافقة على دخولها من قبل موظفي الميناء، ورفض دخول أختها، وهناك يقع نظر “برونو” عليها فيعرض عليها المساعدة فتقبل مساعدته بحذر، لتكتشف أنه ليس أكثر من قواد يستغل المحتاجين، ومع ذلك قبلت مساعدته وإيجاد عمل لها يمكنّها من جمع بعض المال لتتمكن من تحرير أختها من الحجر الصحي.
خلال مسيرتها التي تواجه فيها صعوبات بالغة تضطر “إيفا” لاختبار عالم الليل والدعارة، وتتعرف لاحقاً على أورلاندو الساحر يؤدي دوره الفنان “جيرمي رانر” الذي يشكل بالنسبة لها وعداً آخر بالخلاص. “إيفا” التي تعمل في كابريه صغير تصبح موضوع نزاع بين هذا الساحر وبرونو الذي يقوم بتشغيلها في الدعارة، مع وعود دائمة أن يوفرا لها، كل منهما وعلى طريقته الوسائل لتخليص الشقيقة التي ظلت سجينة عند البوابة.
رغم رقة “إيفا” الظاهرة في ملامحها، لكنها صلبة الإرادة ويقينها بالأمل المنشود أقوى من أن تكسره احتيالات برونو، هي هادئة تسكن في ملامحها البراءة، مثيرة لكنها عنيدة وصعبة الطباع، كبرياؤها سر فتنتها ونقطة ضعفها وقوتها، تمسكها بالحياة وبإنقاذ أختها يبدد ضعفها الذي تخلق منه قوة كلما تذكرت مقتل والديها في الوطن الأم. ومابين جراح الماضي وصدمات الحاضر تخوض ايفا رحلتها، حيث كان الماء هو سر الوصل بينها وبين أماني الحياة، عندما قررت الذهاب إلى نيويورك فقدمها لقمة سائغة للتعاسة ورماها في عالم الرذيلة والشقاء، وبالمقابل سيرحل بها الماء مجدداً من خلال الإيمان والأمل نحو شاطئ السعادة المرتقبة، حيث تترك “برونو” يعاني من جراحه وألمه من فقد الحب الذي كابر عليه كثيراً، لكنه تكفيراً عن أخطائه بحق إيفا والتعاسة التي عاشتها بسببه لم يكن أمامه إلا التضحية بهذا الحب وإنقاذها من أيدي الشرطة التي تبحث عنها بأن يؤمن لها سفراً لعالم آخر ربما تستطيع فيه تحقيق أحلامها التي خانتها الظروف في نيويورك ولم تتمكن من تحقيقها.
يعيدنا مشهد النهاية في الفيلم إلى أحداثه الأولى حيث يتواطأ “برونو” مع موظف الميناء المسؤول عن قبول ورفض المهاجرين بأن يغض النظر عن “إيفا” ليستأثر بها، ويختتم الفيلم بمشهد مشابه حيث الموظف ذاته يؤمن لإيفا وأختها وسيلة إنقاذهما فتبحرا في قارب ينقلهما إلى عالمهما الجديد.
رغم أن أحداث الفيلم تعود إلى أوائل القرن العشرين، إلا أن ظروف الحرب وتداعياتها متشابهة في كل الأزمان، فما عانته إيفا وأختها من فقدان والديهما اللذين قتلا أما أعينهما، وفكرة الهجرة إلى نيويورك تنشدان فيها الاستقرار والأمان، يشبه كثيراً ما يعيشه السوريون المهاجرون من سورية بسبب الحرب، بظروف غير شرعية وغير منطقية، حيث يعيشون الحال والمصير ذاته من الابتزاز والاستغلال الذي قدمه الفيلم عبر شخصياته وما عاشوه من أحداث، فهذه هي الحرب وهذه معادلاتها التي تتنافى مع كل القيم والأخلاق، ما يؤكد أن الضعفاء هم وقودها والبقاء دوماً للأقوياء.
سلوى عباس