ثقافة

أليف شافاق في “الفتى المتيم والمعلم” .. فن العمارة الأثر الباقي كشاهد على التاريخ

متتبعة خطا عمالقة الأدب التركي الذين رصدوا عذابات الإنسان وتحولاته، همومه وعشقه، من ناظم حكمت، إلى أورهان باموق، إلى يشار كمال، تتلمس أليف شافاق أبجديتها الخاصة بها في صوغ سردياتها الأدبية، وسكب خلاصة أفكارها عن القوميات، والظلم، والتاريخ، والإنسان.
الإبداع المعماري المتبقي من عهود سابقة كأثر فني بديع، وصرح عالي البنيان، هو القالب الفني للعمارة الأدبية للنص الروائي الأخير لها: (الفتى المتيم والمعلم)– دار الآداب للنشر والتوزيع 2015، بعد النجاح الكبير الذي حصدته صاحبة “قواعد العشق الأربعون” في أغلب أعمالها لجهة توغلها في العوالم الصوفية الروحانية، وتتويج المحبة كقيمة إنسانية بين الخلق والخالق، بفهم لاهوتي عميق لرسالة الدين من جهة، ورؤية وتفهم معتقدات الآخر المختلف من جهة أخرى، وتسليط الضوء على القوميات الأخرى من أرمن، وكرد، وهندوس، وباقي الأطياف الدينية في لقيطة اسطنبول وشرف بروح تنشد رصد الظلم والجور اللاحق بالإنسان أولاً بعيداً عن التسميات.
على مدى ستمئة وثماني صفحات تسرد لنا الكاتبة على خطين متوازيين، وعبر علاقة متواشجة بين حكاية المعلم سنان الذي برع في تشييد أجمل المساجد والحمامات والقصور والجسور وقنوات المياه، معاصراً لثلاثة ملوك حكموا الامبراطورية العثمانية: (سليمان القانوني- سليم- مراد)، وبين الفتى جيهان الذي قدم مع فيله الأبيض ليتتلمذ عند المعلم سنان كرابع تلميذ بعد يوسف وداوود ونيقولا، وليهيم عشقاً بابنة السلطان مهرماه، كحلم بعيد المنال.
الدرس الأول الذي تعلّمه التلميذ من معلمه هو الفرق بين العشاق والمتعلمين، حيث إن العاشق هو التوّاق للكمال في الفن الذي يبرع فيه، بينما المتعلم هو التوّاق للمعرفة وحسب، فدروس الحب يستقيها جيهان الفتى من منبعين: الأول: حبه الفطري لأميرة صافية السريرة، والثاني: أستاذه الذي يؤكد له: (لابد أن ينفطر قلبك حتى تزهر روحك)- (عندما تفعل شيئاً من أعماق روحك تشعر بنهر يجري في داخلك)- الأستاذ الفنان بفلسفته الخاصة، إذ يرى في العمارة حواراً مع الله، وتلمذة على فعل الخلق، حيث للعمل الدؤوب صلاته الخاصة، ويكمن تحت كل أساس يشيده مركز للكون يشده إلى الثبات، ومع ذلك يترك في كل عمل خطأ بسيطاً، إشارة إلى مقاربات للكمال المطلق، والذروة التي لا تبلغ، حيث يجدد منهجية دروسه بالنافورات الثلاث، وهي: “الكتب والعمل والطرق” التي تشبع تباعاً من خلال القراءة والممارسة والسفر.
الأستاذ الفنان يقف حائراً أمام اتهامات تلميذه لتلكئه بالدفاع عن المرصد عندما أمر السلطان بتهديم المرصد الفلكي الضخم الذي عملوا على إنشائه، وأخذ من جهدهم وأعصابهم الشيء الكثير، وهم يواجهون العقبات بالعقول المتخلفة التي ترى بالعلم تهديداً لوجودها القائم على استلاب عقول الناس.
لا تنسى الكاتبة أن تشير إلى أن الصروح المعمارية الضخمة والرائعة لم تقم إلا على طريق عُبّد بالدم والمجازر والحروب، وأعمال الغزو والسلب والنهب التي قامت بها امبراطورية الجواري والمحظيات، وغير بعيدة عن الأذهان حروب السفربرلك التي نالنا نصيب منها، والتي ساقت الحجر والبشر والجماد والحيوان ليكونوا بيادق وحجارة في بنيان الامبراطورية العثمانية، توضح ذلك من خلال الغل الذي يأكل داوود التلميذ الحاقد، الذي خلف المعلم سنان بعد وفاته، على السلاطين الذين تتابعوا على الحكم، حقده الذي نما وكبر لذكرى إعدام وقتل أفراد أسرته على أيديهم، الألم الذي لا يفارقه تحوّل إلى فعل تآمري توافق مع كره الأميرة مهرماه لأبيها وأخيها الذين تشابهوا في قتل إخوانهم الصغار لكي لا يتم خلق طامعين لهم في الحكم، ومنافسين بأحقيتهم له، تجلى ذلك الكره بخلق العقبات والمصائب تجاه أعمال البناء التي اعتبروها إضافة جاه، وتخليداً لمن قتل أحباءهم، كما نوهت لتداخل الأعراق والطوائف المشتركة بالعمل الإنشائي والعمراني من روم وأرمن وترك ويهود ونصارى ومسلمين، إشارة إلى أن فعل الحضارة إنساني مطلق لا يمكن لأية فئة أو جهة احتكاره لنفسها بالمطلق.
كما تميز أسلوبها السردي بالمتانة والبساطة معاً، معتمدة على شكل القلب السردي، حيث بدأت بحادثة قتل السلطان لإخوانه الذكور، لترجع بعدها إلى بدايات الحدث الروائي، معتمدة على مسرود تاريخي طويل، لشخوص عملها متنقلين بين الأماكن أكثر منه الغوص في عمق نفسياتهم ونوازعهم، من خلال تعبيرات مباشرة عما تريد إيصال قارئها إليها، حيث كان البطل هو حامل السرد بصفته السلك الناقل للمرويات مرة، والراوي مرة أخرى.
ولم تستطع شافاق الإفلات من ظلال الصوفية المستمدة من دراسة الكاتبة الأكاديمية، حيث أوضحت كيف كانت التصفية الجسدية وعلى رؤوس الأشهاد، مصير التيارات الصوفية الداعية إلى فهم مغاير للدين، عبر تداخل بين الحب والعقل والعلاقة الروحانية الصرفة مع الله.
“الفتى المتيم والمعلم”، وان كانت أقل وهجاً من سابقاتها، لكنها مازالت ضمن المناخ الأدبي والفكري الذي اختطته شافاق كمحور أساسي تدور حوله مجمل أعمالها الإبداعية لتعاود إدهاش القارئ مجدداً لما تتضمنه أعمالها من انتصار للإنسان في أي زمان ومكان.
دعد ديب