ثقافة

المـسـار والتـسـاؤلات!

غسان كامل ونوس

ثمّة مسألة لا يمكن تناولها بعجالة أو باستسهال، كما يتمّ تداولها في معرض الحديث، والتسويغ، والدفاع الذاتي، والتضليل- ربّما!- تتعلّق بالتناقض بين الشعارات والمبادئ والأسس والأفكار، وبين من يمارسون رافعين راياتها وعنواناتها، منتمين إلى أحزاب وأديان وقوميّات وتيّارات وعقائد متباينة أو متقاطعة بهذه الدرجة أو تلك؛ فنقول، ويقال: ليست المشكلة في هذا الحزب أو ذاك، ولا في ذاك الدين أو المذهب أو التيّار هذا؛ بل في من يحملون الشعار، ويتحدّثون بفحواه، ويرفعون رايته، أو يقومون بطقوسه، ويردّدون أدبيّاته.
ولاشكّ في أنّ هناك انتماء بالولادة والتاريخ والجغرافية؛ أي من دون استشارة أو خيار، ولا يتحمّل المنتمون وفق هذي الحال، مسؤوليّةً في التبعيّة، التي وجدوا عليها آباءهم وأجدادهم؛ وهناك انتماء آخر برأيٍ أو رغبة أو هدف؛ أي إنّ أبناء هذه الشريحة التي تخصّها الحالة هذه، فكّروا، وتبيّنوا، واتّخذوا قراراتهم، وهم بكامل قواهم العقليّة، ولهم مصلحة على الأقلّ في ذلك، إن لم نقل قناعة!
وإذا كان هناك فرق كبير بين الانتماءين،تمثّله المسؤوليّة الشخصيّة المباشرة أو غير المباشرة لدى من اختار عن خياره، وعدم مساءلة الآخر عمّا لم يَختر بمحض إرادته؛ بل قد يجد نفسه في مواجهة مصيريّة إن فكّر في (الارتداد)، أو يتّهم، ويُدان بالازدواجيّة التي لا تقلّ حساباً أو مصيراً؛ فإنّ هذا لا يغيّر كثيراً في جوهر القضيّة؛ إلّا أنّه يحمّل من اختار بقناعة (أو بافتراض ذلك)، وهو بكامل الأهليّة، مسؤوليّةً أكبر، في أنّ من واجبه محاولة الإصلاح الذاتيّ الداخليّ، والسعي الدائب إلى تحقيق التطوّر المطلوب؛ كما لا يبرّئ الآخر غير المُختار، الذي عليه أن يبذل جهداً أكبر في تمثّلِ ما هو صالح وجدير وجوهريّ في ما وُجدَ عليه، ونبذِ الظواهر السلبيّة والممارسات الخاطئة، أو التأويلات الناشزة.
إنّه لمن الطبيعيّ والواقعيّ أن تكون المضامين، التي تتبنّاها النظريّات المتأصّلة في التجمّعات البشريّة، إيجابيّةً، ذات أهداف مشروعة، وغايات نبيلة، وتنطلق من مصلحة الجماعة- وأفرادها- ومشروعها الحياتيّ، لتصل إلى الخلاص المنشود؛ وهي- وإن كان كلّ منها في اتّجاه أو اهتمام- لا تتعارض أو يفترض ذلك،؛ بل تتكامل في سبيل تقديم خدمات جلّى للإنسان؛من تحسين ظروفه، إلى تطوير سلوكه وأساليب حياته، وتقوية قواه الذاتيّة لمواجهة أيّة مصاعب لا يخلو منها مسار، وتأمين رفاهيّة وسعادة، وعدالة أكبر.
وليس وارداً؛ إلّا في حدود دنيا وسرّيّة، أن تقرأ عبارات تكفيريّة في ما يُعلن، ويُشاع، ويذاع، ويعمّم من أقوال وأفكار ونظريّات لهذا التيار أو ذلك، أو ذاك التجمّع أو هذا؛ (لا ينطبق هذا على حال العصابات المسلّحة، وما تعلنه أو تقوم به؛ وإن كانت ليست سوى الصورة فاقعة الدلالة على ما نقول)، لكنّ الأداء على الأرض يختلف كثيراً؛ بل قد يتعارض مع ذلك؛ فتُنتهك هذه المبادئ، ويكفّر الآخرون، الذين لا يؤمنون بها؛ حتّى يصل الأمر إلى تكفير من لا يؤيّدون هذا الزعيم أو ذاك، في التيّار نفسه.
ويحدث مثل هذا في مختلف المذاهب والأديان، حتّى ليصبح المذهب مذاهب، ويختلف رجال الدين في تأويلهم، ويصبح لهم أتباع ومريدون، ومجاهدون في سبيلهم، لا في سبيل الدين والحقّ.
ومثل هذه الوقائع لا تتوقّف على هذا العصر، أو الزمن، ولا على دولة من دون أخرى؛ بل هي أمور متواصلة منذ القدم، حتّى لتظنّ أنّها فطريّة ومتوارثة.              وهنا بيت القصيد؛ فلماذا يحدث هذا، ويتكرّر حدوثه كلّ حين، وفي أيّ تجمّع أو حزب أو تنظيم؟!
هل الأمر يتعلّق ببنية الإنسان العقليّة، التي لا تقبل الآخر؟! إذن، كيف يكون الإنسان اجتماعيّاً بطبعه؟! أم هو متسلّط في جوهره، يميل إلى الاستئثار والتملّك حتّى بالفكرة التي لم يبتدعها، والنظريّة التي اتّبعها، والعقيدة التي جاءت من الغيب، ولا يودّ أن يشاركه في أيّ منها، إلّا من يرضى أن يكون تحت هيمنته وسيطرته،         وهو يتحيّن الفرص للانقضاض، أو وضع اليد، بالتي هي أحسن أو أسوأ! وبرغم الآليّات التي يحرص بنوايا سليمة، وبنضال مضنٍ، وكفاح وتضحيات، على ترتيبها، مع ما تحمله من معاني التطهير والتجديد والتحصين؛فإنّ حالات انتهاكها أو الخروج عليها، حتّى في المجريات الطبيعيّة، تبدو مؤكّدة. وبالتالي يبقى المسار الإنسانيّ متذبذباً ومنغِّصاً ومثار أسئلة وتساؤلات بلا أجوبة ربّما؛ ومن دون أن يعني هذا أيّ تسويغ لتصرّفٍ أحمق، أو سلوكٍ انتهازيّ، أو أداء مؤذٍ؛ بل هي محاولة أخرى للتفكير الجادّ في السبب والغاية والمآل!