ثقافة

“الثريّا” بين مطالع الحب والحرب

تمام علي بركات
كثيراً ما تغنّى الشعراء العرب بأسماء محبوباتهم من النساء، حيث كان الغزل واحدة من الموضوعات الشعرية الأصيلة التي يجب على الشاعر أن يخوض بها لتمتحن مقدراته الشعرية، ولطالما كان لتلك الأسماء العربية النسائية وقعها في قلوب أولئك الشعراء الذين تغنّوا بـليلى وفاطمة ولبنى وخولة وغيرهن من النساء العربيات اللواتي ألهمن الشعراء لإبداع تحف لغوية بديعة، حبكت على شكل شعري وفيها ما فيها من الجمال الباذخ، إن كان بالصورة الشعرية أو الفكرة التي يقدمها كل بيت شعر على حدة، وأيضاً بالانسيابية البديعة التي تمتاز فيها قصائد الغزل العربية.
منها مثلاً ما قاله “الملوّح”:
أَلا إِنَّ لَــيــــلــى بِــالــعِـــــــراقِ مَــــــريـضَــــــةٌ        وَأَنـــتَ خَــلـيُّ الــبـالِ تَـلـهـــو وَتَــرقُـدُ
فَلَو كُنتَ يا مَجنــونُ تَضنى مِنَ الهَــــوى        لَــبِـتَّ كَــمـا بـــاتَ الـسَـلـيمُ الـمُـسَهَّد
ومن بديع ما قاله “قيس بن ذريح” في معشوقته “لبنى”:
عِـــيدَ قَيْس مِنْ حُــــبِّ لُبْنَى وَلُبْنَى      داءُ قَيْسٍ، والحُبُّ دَاءٌ شَدِيدُ
ليــــتَ لُبْــنَى تعــــودُنِي ثــــمَّ أقضِي      إنَّهــــا لا تَـــــعُــــودُ فِيمَـــنْ يَعُودُ
وغيرها من القصائد الهائمة وجداً وعشقاً وطرباً وهياماً وولعاً وحزناً حتى،إلّا أن اسماً أنثوياً لم يحظ بالاهتمام الكافي أدبياً رغم أنه من الأسماء التي تحمل معنى قيّماً وطاقة إيحائية عالية.
“ثريا” من أسماء النساء الّتي لم تأخذ اعتبارها، الاسم له وقع ساحر ومعناه لا يقل حلاوة عن وقعه: فالثُّريَّا كوكبة نجمية تُعدّ الألمع في صدر كوكبة الثور العُظمى عند قطاع “الجبّار” النجمي، وحتى باللغة الانجليزية “الثُريَّا” تعني “پلايْدِس” بالانجليزية أيضاً وقعُها جميل وله موسيقا خاصة به.
هذه الكوكبة النجمية تتميز بأنها مفتوحة أنجمها السبع متوسطة العُمر، نشطة، تُرَى بالعين المجرَّدة في سماء صافية قليلاً.
وقد ورد في العديد من الدراسات الميثولوجيا الإغريقية أن الثُريَّا تنتصر للمرأة، ربّما على خلاف الشائع فيها.
والثُريَّا أيضاً هي الشقيقات السبع وهنّ بنات الإلهة “پِلايونِ” سيّدة مواسم الإبحار والهجرة عبر أقطار الأرض، تجدر الإشارة فقط إلى أن اسم الأم “أضيف” لاحقاً لتُنسب إليها بناتها النجمات، والاسم مشتق من اللاتينية التي تعني “الإبحار” وهي كوكبة شتوية المِزاج بالأساس.
في الفلك، بالمصادفة جاء موضعُ “الثُريّا”على خط السماء في مواجهة سيّد قطاع الجبَّار الأيمن، ممّا أثار الأخير، فانطلق في مطاردات عبثية بهدف إطفاء الثُريّا وتعطيل مواسم الإبحار.
هذه الكوكبة تحديداً عرفتها الحضارات القديمة كلّها، وبعضها كانت ترمز عنده للحرب، وكوكبة الجبار أو كما كانت تعرف قديماً “الجوزاء”، هي واحدة من كواكب السماء الحديثة الثمانية والثمانين، وأحد أشهر الكواكب في الثقافات الإنسانية القديمة وأكثرها رواجاً بين هواة الفلك وهي أيضاً واحدةٌ من أشهر الكواكب السماوية لوضوحها الكبير وشدَّة لمعان معظم نجومها، ويجعل ذلك تمييزها سهلاً حتى في حال وجود تلوث ضوئي عالٍ، كما أنَّ هيئتها – التي تخيَّلها الناس منذ القدم – واضحةٌ للنظر كمحارب يقف حاملاً سلاحه وعلى خصره حزام من ثلاث نجوم، وقد نسج القدماء – خصوصاً العرب والإغريق وغيرهم – الكثير من الأساطير المختلفة حول كوكبة الجبار، فتخيَّلوها على هيئة إنسانٍ واقفٍ يحمل في إحدى يديه ترساً وبالأخرى هراوة يُقاتل بها الثور المتمثّل بكوكبة الثور، ووراءه كلباه: الكلب الأصفر والكلب الأكبر.
الصراع الميثولوجي انتهى دون أن ينتهي في الواقع، إذ استمرّت مطاردات الجبّار للثُريَّا كحُكم أوليمبي أبدي لا يسقط بموت الجبّار ونجاة الثُريَّا التي لحقتها “أرتميس” – إلهة القمر- مؤازرة لها في هذه المعركة التي لم تخُضْها بالأساس، ولم تسعَ إليها، ومن غير الواضح ميثولوجياً دوافع نشأتها.
من ناحية الأدب والشِّعر تصادف أن مجموعات الثُريَّا الشعرية ضاربة في جذور التاريخ، لأسباب مختلفة، بشكل عام هي “تحلُّقات نجمية” من شعراء سبعة يخصّصون جهودهم الشِّعرية لهدف ما، أشهرها “ثُريَّا تولوز” وهذه كانت كوكبة نسائية أخذت على عاتقها إعلاء النزعة النسوية في الأدب الفرنسي المقفّى، وسبب شهرتها بالأساس أنها نسوية، وربّما كانت الوحيدة تاريخياً، وآخر الثريَّات الشِّعرية فرنسية كانت معنية بالتحديث في مسار الشّعر الفرنسي لغويًّاً ونظماً بالأساس.