ثقافة

حفلة علي بدر الأرجوانية

اقطع تذكرة دخولٍ إلى حفلة لا تضاهيها أية حفلة، إن كنتَ ترغب بمتابعة المشاهير عن كثب؟! فالكاتب “علي بدر” سيرسل قوارير وردته الفواحة عبر البياض.
اقطعْ تذكرتك واحجزْ مقعدك، وأصغ إلى سيمفونية العبق، وإلى هذا الفنان الذي سيترفك بالضوء والانشداه.
في كتابه “بطاقة دخول إلى حفلة المشاهير” تختلط السيرة الذاتية للكاتب مع سير الأدباء المشهورين عالمياً،حيث يدعوهم إلى المسرح واحداً تلوى الآخر حسب أزمانهم،سواء جاؤوا بسياراتهم أو بدونها، ثمّة كاتب يدعى “فلوبير” هل عرفته؟ هذا العظيم يدعو الجميع إلى الحفلة، يمدّ لهم البساط الأحمر، ويترك خطواتهم تندرج عليه. أما علي بدر، فهو المنسق لدخولهم، هو المنظم الكبير لهذه الحفلة، بينما “فلوبير” هو الداعي، فهل أنت مستعد لتحتمل أكواماً من المتعة والفائدة، والدخول إلى عالم كلّ واحد من المدعوين؟ ستكون ولا شك برفقة الخيال والواقع لتمرّ بلحظة لا تفرّق فيها بين التخيل وبين مشهد تراه مقتطعاً من واقع.
بادئ ذي بدء يدعو “سارتر” ليكون أول الداخلين إلى حفلة “فلوبير”، ليحيطك علي بدر علماً بكلّ شيء من خلال الوصف الذي استقاه من ثقافته حول الموضوع، أو من أثر المسرود عنه، فلا يبخل عليك حتى بأدقّ خصوصياتهم:”حين نقول سارتر نعني علاقة الحب المدوية دون زواج بين دوبوفوار وسارتر، والتي أغرت مئات الآلاف من الشباب بتقليدها.” ص12.وهكذا يتبنى علي بدر كشف المستور والمنسي عن سارتر، وينبش ما ذكرته الكتب بأسلوب تقديم معلومة أدبية بشكل رائع ومشوّق.وهذا جهد من الكاتب وثقافة تأتيك كرف من الطيور تفغر فاهك حيال جمالها. يقدم لك كلّ شيء، آراء سارتر في الوجودية وفي قضايا العرب كقضية فلسطين ومصر والجزائر، ويستحضر لقاءات الرموز مع سارتر كلقاء ادوارد سعيد، ثم وقوعه بقبضة سكرتير يهودي الذي يفرض عليه عزلة، ومن ثم نسف إرثه الفلسفي ليخبرك عن  بداية النهاية لسارتر،ثم يعود بك الكاتب إلى حفلة فلوبير ليجعل ادوارد سعيد يلتقي بـ “جاك دريدا”، ليقدم لك كلّ معرفته بـ”ادوارد” ومواقفه ونظريته حتى يصل بك إلى موته،ويعود إلى الحفلة ليتناول أشخاصاً جدداً تحت عناوين لافتة تشدّ القارئ.
حين يدعو “أغاثا كريستي” إلى الحفلة يذكر كلّ ما لديها من روايات حتى حياتها الشخصية، والأماكن التي زارتها في عواصم العالم، والفنادق التي نامت فيها، إنه يروي كلّ شيء، بيد أنّ الخيوط  تفلت من قبضته فيسهو عن مدعويه ليمتطي هو البساط،بل المنصة، ليحكي عن حاله  ومشاعره، والكتاب الذي يقرأ ويطرح تساؤلات المندهش والمستكشف:”ما الذي تغير فيّ؟ سألت نفسي، كيف قرأته في ما مضى؟ كيف رأيته؟ كيف لهوت عنه؟ هو الذي تغير أم أنا الذي تغيرت؟ هذه الحركة في الروح وفي البدن وفي المخيلة من المسؤول عنها؟!.
وما تجاوز الكاتب وتسلقه المنصة إلا ليضيف شيئاً من رغائبه وأحلامه وطريقة تفكيره. وإن أردت الحقيقة فـ “علي بدر” يستحق أن يُدعى إلى حفلة كالتي نسج بساطها بجهده، بل ويكون مدعواً من الطراز الرفيع.
ومما هو لافت أنّ الكاتب الذي أجزتُ له اعتلاء المنصة كلّ حين، يعود بك إلى المشاهير في الأدب بعد أن يستفيض تباهياً بعرض ثقافته وتنقلاته من بلد إلى آخر،  يعود بنا إلى روايات هامة  ليشرح لك عنها الكثير، فتأخذ جرعة كبيرة من المعرفة والثقافة، فهو يمدّك بمقطع من رواية، أو يقتطع فرعاً من قصة، تعيش بذلك معه سرداً فاتك لسبب ما.
إنّ الكتاب عبارة عن حفلة كبيرة لمجموعة من مشاهير الأدب، أقامها علي بدر كما تقام الحفلات دوماً لمشاهير السينما، هذا ما تخيله جندي –وهو الكاتب- في جبهة الحرب، في ساعات الاستراحة، حيث يجلس منعزلاً بدعوة من المبدع الذي يكونه، حيث يحبذ العزلة والوحدة، فيغرق في كتابته، يغرق في السطور كأنه في زمان ومكان آخرين، كأنه يعيش في عالم آخر غير العالم الذي أجبر على الوجود فيه، فيتخيل حفلة لمشاهير الأدب بعيداً عن رائحة تعفن جثث القتلى القادمة مع الهواء الهابّ من ساحة المعركة، أو بعيداً عن البارود الذي ينفذ إلى أعماقه.
بين كلّ هذا، فكر علي بدر بحفلة لمشاهير الأدب، يدخلها كلّ من:”فلوبير، رامبو، سارتر، جاك دريدا، بوكوفسكي، ادوارد سعيد، أبولينير، فرويد، بول ريكور، الفريده يلينيك، كلود سيمون، فرانسواز ساغان، بورخيس، عتيق رحيمي، جلال الدين الرومي ..الخ من عظماء الرحلة الأدبية والمفكرين ومشاهير الثقافة.
هي حفلة خاصة تمثل احتفاءات الكاتب بمن تركوا أثراً لا يُمحى،ربّما تكون عربون امتنان لما قدموه.لكنها على أية حال أراها استبياناً يقوم به الكاتب ليرصد مشاعر القارئ حيال هؤلاء العظماء بما مرّ بهم من أحلام وانكسارات وتوجع وفرح واحباطات، فالقارئ لا يمكن أن يُخبئ دمعته أو ابتسامته أو تألمه.أو دهشته،أو رواحه مع أرجوحة الخيال الساحر،كما كان عند “بورخس” حينما استقدمه إلى الحفلة، فبيّن روعته في نسج حكايات الخيال، وفي تشييد عالم الحكايات المديد والسعيد الذي لا ينضب، واستطاع بعبقريته- أي بورخس- أن يصنع عالماً شفافاً يتراءى خلفه عالم آخر، وأن يخلق عالماً حالماً أخذه من الفيلسوف الانكليزي “بيركلي” إذ إنّ “بورخس” لا يعتقد بوجود عالم مادي مطلقاً،إنما هو عالم مصنوع من الأفكار والتخييلات والأوهام،إنه عالم لا يعدو أن يكون متصوراً عقلياً في الذهن،حيث تتم العودة الدائمة فيه إلى المتاهة، أما الحياة فهي لغز كبير، وموضوعها الرئيس هو الزمن،ومع أنّ الزمن هو الآخر خرافة من خرافات الواقعي،إلا أنه يُخترق بسرعة خاطفة من قبل النهاية،وعندما تقترب النهاية لا يبقى أية صورة في الذاكرة،بل ثمّة كلمات.
ويمضي بك علي بدر إلى اليوت ومقولته:”من العقم العاطفي إلى الأرض الخراب.
هكذا سينتهي العالم،ليس بضربة قاضية بل بنحيب”. لكن أليس في النحيب دعوة لخلق جديد؟
ثمّة كلمة أودّ أن أقولها للكاتب الجميل علي بدر: كتبت عن كتّاب أجانب، وعرّجت باستحياء شديد على كاتب أو اثنين لا أكثر من العرب، هلا اهتممت بمن ترك أثراً منهم يطال هؤلاء قامة وخلوداً؟! بالتأكيد ستقيم لهم حفلة كهذه، أم إنك ستدعوهم إلى  حفلة تنكرية؟ لأن أدباءنا لا يمكن أن يكشفوا اللثام عن آرائهم الحقيقية،أو سيرهم الذاتية،فيحكوا عن علاقاتهم ونزواتهم، وحيواتهم السرية كما فعل سارتر وغيره. وذلك ليبقوا في نظر قرائهم أقرب إلى الأنبياء،ومن زقورات الطهر.
أتفهم تردّدك،ومع ذلك شكراً علي بدر أيها المثقف الكبير،فمجرد أن تكون ملماً بما كتب هؤلاء الذين ذكرتهم في كتابك، يعنى أنك بحق كاتب موسوعي ومثقف فريد.         وما كتابك هذا سوى معجم يختصر كتباً، فما جدوى ثقافة أو كتابة لا يستحمّ جناحاها بألق البساط الأحمر الذي مددته أمام الخطو؟!
ما جدوى قلم لا يستقي حبره من نبيذ حفلتك؟!
شكراً لحفلتك التي أقمتها.
شكراً للأحلام التي ساهمتَ بنشرها، وللانكسارات والمحن التي استفقنا عليها،فأضفنا حزناً وألماً إلى أكوام ما بدواخلنا.
نجاح إبراهيم
بطاقة دخول إلى حفلة المشاهير للكاتب علي بدر
إصدار: المؤسسة العربية للدراسات والنشر
بيروت- لبنان-2010-الطبعة الأولى.