ثقافة

صنع في تركيا

لوردا فوزي
لا أعرف كيف بدأ الحديث بيني وبين المرأة التي صعدت إلى الباص واختارت أن تجلس على المقعد المجاور لي، كانت تحمل بين يديها طفلها الرضيع الذي لا اعتقد أن عمره يتجاوز الستة أشهر وقد لفته بدثار يقيه برد شتاء قسى علينا هو الآخر كما أيامنا، حدثتني تلك المرأة التي نسيت أن أسالها عن اسمها عن رحلة معاناتها، فهي غادرت مكان سكنها الأول لأنه لم يعد آمناً، بعدها اضطرت إلى الرحيل مرات عدة إلى أكثر من مكان حتى انتهى بها المطاف في أحد مراكز الإيواء.
منظرها العام يوحي بالبؤس وربما ينقل العدوى به أيضاً، شفّ قلبي حزناً عليها وعلى ما أًصابها، فمن منا لم يعاني من ويلات الحرب ومن أكثر منا يملك القدرة والحق في مواساة بعضنا، أخبرتني أيضاً في نهاية حديثها أنها لا تعرف سبب ما نعيشه اليوم قائلةً “ما باليد حيلة” رغم مخالفتي لرأيها هذا ما امتلكت جواباً على كلامها فالتزمت الصمت إلى أن رأيت ما استفز صمتي، ولم يكن ما استفزني إلا عبارة (صنع في تركيا) على طرف الغطاء الذي تدثر به رضيعها الذي شردته الحرب، والتي يعلم الجميع  من شارك بتأجيج نارها، كل هذا جعل آلاف الأفكار تدور في بالي فرغم كل ما تعرضت له تلك المرأة لم تكن تعي أنها تلعن جلادها من جهة وتحتضنه من جهة أخرى، بل استمرت بعفوية (لا تُغفر لها) بالتعاطي مع من سبب لها كل هذا الدمار، وقبل أن أترجم أفكاري إلى كلام أوجهه للمرأة التي لا أعلم أسمها كانت قد غادرت الباص هي ورضيعها، ودثاره “المصنّع في تركيا”، وغابت في الزحام.
السؤال الأهم الذي سيطر عليّ بعد لقائي بتلك المرأة لماذا لا نملك القدرة على اتخاذ موقف ولو فردي بعيداً عن المواقف الحكومية بأن نقاطع من أذانا، في الأحوال العادية عندما ينشب جدل مع جار لنا على سبيل المثال، كنا سنقاطعه بشكل عفوي (على اختلاف أشكال مقاطعتنا) ونُؤثر عدم التعامل معه، فلماذا لا نفعل نفس الشيء مع من سرق حقنا المشروع بوطن آمن، المفارقة تكمن في مواقف بعض الدول والشعوب والتي ضجت بها وسائل الإعلام مؤخراً تجاه من يقترب من أحد مواطنيها حيث تبدأ المقاطعات العلنية ويصبح التنفيذ حقيقة واقعة، ولا يبدو أن لمثل هذه المواقف وجوداً في حياتنا ولا حتى في ثقافتنا، عاد إلى ذاكرتي جواب تلك المرأة “ما باليد حيلة” ليخلق لدي لوم كبير على فكرة الاستسلام التي تحتل معظمنا حيث نجلس متفرجين على من يدمر أيامنا ولا نحرك ساكناً، والأعظم أننا نمد له يدنا (نفسها يدنا التي ليس فيها حيلة).