ثقافة

تناغم الحرف والنغمة بين صـانـد وشـوبــّان

عماد الدين إبراهيم

حين تلفح نار الحب بلهيبها قلوب المبدعين والعباقرة، فإنها لابدّ أن تترك دفئاً يغمر حياتهم، وإبداعاً تتفتق عنه قرائحهم، يبقى خالداً على مر السنين، لقد جمعت جمرة الحب حولها قلبين كبيرين لشخصيتين من مشاهير القرن التاسع عشر، وترك عهد المحبة ذاك بصمات خالدة لا تُمحى بين نتاج الاثنين، إنهما جورج صاند، الكاتبة الفرنسية الشهيرة (1804 – 1876)، وفريدريك شوبّان، الموسيقار بولندي الأصل، فرنسي الجنسية (1810– 1849).
في شهر تشرين الأول من عام 1837 التقى شوبان بجورج صاند، وكان عمرها ثلاثة وثلاثين عاماً، أما شوبان فكان في شرخ الشباب (27عاماً) وسيم الطلعة، نحيل الجسم والأصابع، هادئ الطبع، مفرط الحساسية، وقد وصف ذلك اللقاء بقوله:
«التقيت جورج صاند، كانت تستند إلى البيانو، وتُغرقني بنظراتها الملتهبة، عندما كنت أعزف مقطوعة: “أساطير الدانوب” الحزينة، تُرى ماذا كانت تقول تلك العينان الداكنتان الفريدتان في تلك اللحظات التي كانت تذوب خلالها في عينيّ؟.. لقد انتزعت قلبي»، وهكذا وقع الاثنان في الحب، كانت أورور دوبان– وهو اسمها الأصلي– قد انفصلت عن زوجها وتعيش مع ولدها وابنتها، أما شوبان فكان قد خرج للتوّ من علاقة حبّ فاشلة، وهكذا وُلدت قصة حبّ كبيرة جمعت بين الأديبة والموسيقي، بين الحرف والنغمة، وفي خريف عام 1838مرض شوبان مرضاً شديداً، فقرر العاشقان تمضية فصل الشتاء في جزيرة ميورقة الاسبانية الدافئة في البحر الأبيض المتوسط، كان ذلك الشتاء في تلك الجزيرة مأساوياً للعاشقين، وقد فجّرت المأساة فيهما ينابيع ثرّة من الإبداع الفني والأدبي، إن العلاقة بين العاشقين لم تتردّ على الإطلاق، بل زاد تعلّق أحدهما بالآخر أكثر، لكن المعاناة الحقيقية التي عاشاها تمثّلت في المرض الذي استوطن في جسم شوبان، والحرب العنيفة التي شنّها عليهما سكان الجزيرة، لأن تقاليدهم المحافظة لم تستوعب وجود امرأة مع رجل ليس زوجها.
كانت حصيلة ذاك الشتاء آثاراً أدبية وموسيقية رائعة، فقد كتبت خلالها جورج صاند آخر فصول روايتها (سبيريدون)، جاعلة من مناظر الطبيعة في الجزيرة إطاراً لتلك الرواية، كما بدأت بروايتها المشهورة (ليليا)، وأعدّت دراسات عن “غوته”، و”بايرون”، والشاعر البولوني (ميكيوفيتش)، وألّفت كتاب: (شتاء في ميورقة)، وصفت فيه رحلتها، ومعالم الجزيرة الأثرية، والطبيعية، والجغرافية.
أما أثر ذلك الشتاء على الفنان العليل شوبان، فقد كان عميقاً للغاية، إذ تجلّى في سلسلة من الأعمال الموسيقية الخالدة التي اتسمت بالحزن والحنين إلى الوطن، صوَّر فيها نوازعه النفسية بألحان ملائكية عذبة، إن من يتابع تطوُّر مرضه في ميورقة عبر رسائله ومؤلفاته، يُدرك معاناته المريرة، ويعزو قدرته على العمل رغم الإعياء إلى عطف جورج صاند عليه ومداراته.
في دير (فالديموسا) في الجزيرة، انكبّ شوبّان بشوق يضع المؤلفات الجديدة، منها الجزء الأكبر من مجموعته (المقدمات)، و(البالّاد الثانية)، و(المازوركا الثانية)، وإحدى مقطوعاته الثلاث المعروفة باسم (البولونيات)، وكانت للمقدمة الخامسة عشرة من مقدماته الأربع والعشرين قصة محزنة ومؤثرة، فقد تعرضت جورج صاند في يوم عاصف لحادثة مقلقة، وكادت تغرق، فجلس شوبان إلى البيانو حزيناً يُصوِّر وقع حبَّات المطر على قرميد الدير وزجاج النوافذ، كما دوَّنت صاند تلك الحادثة في كتابها (قصة حياتي).
اليوم عندما نصغي إلى روائع شوبان الحزينة، ونحلِّق مع ألحانه العذبة إلى عالمه العُلوي، قلَّما يخطر ببالنا أنه أبدع تلك الموسيقا الشجية وهو محموم وفريسة مرض عُضال، يأكل حبَّة قلبه، ونسيج رئتيه، لقد شهدت حُجُرات دير (فالديموسا) ذات العقود البيضاء المقببة، والنوافذ الرومانطيقية المطلة على البحر أعظم وأغرب قصة حبّ وتضحية سجّلها تاريخ العشاق في العالم.
بعد تلك الرحلة الشتائية إلى ميورقة، عاد العاشقان إلى نوهان في فرنسا، وعادت الحياة العذبة إليهما، وقد وصف شوبان في مذكراته تلك الفترة بقوله:
«إنني أشعر بألم نفسي عميق لأن عيني أورور يشفهما الضباب، إنهما لا تبرقان إلا حين أعزف على البيانو، عندئذ تشرق الدنيا أمامي، وتبدو جميلة عندما تنزلق أصابعي على البيانو، وتتحرّك ريشتها على الورق، فتكتب وتصغي إلى الموسيقا في آن واحد، لا أريد أن أعيش إلا من أجلك يا أورور، لك وحدك أريد أن أعزف ألحاناً عِذاباً».
وهكذا نجد أن قصة الحب بين هذين المبدعين تجلّت تناغماً جميلاً بين الحرف والنغمة، بين الكلام والموسيقا، وأثمرت إبداعاً خالداً.