ثقافة

أرصفة الغربة.. “زيتونة” تسقط القناع المخاتل

النمسا- طلال مرتضى

في الهزيع الأخير من الحلم، سمعت الله يخاطب أبناء قومي الذين أصابتهم جهالة: “لكم دينكم ولي دين”، حينها لملمت ما تيسّر من نثارات تثاؤبي ميمماً خيبتي صوب آخر رشفة من كأس خساراتي، لربما تأخرت عن الحقيقة ألف ميل وخمس سنوات، لكنني الآن أمتلكها، وغداً بعد أن أفنى بقليل سوف أحاججكم جميعاً، لن يطول اختباؤكم في ظل هوامش دفتر الحساب.
لعلها الساعة المتأخرة من الندم، لكنها خير من ألف اعتذار، الذين يكتبون الحقيقة ليسوا كمن تجرع مرّها، فأنا مذ كنتُ في الأول من فجيعتي أنادي عبثاً: ماذا “لو مات الانتظار من الجوع؟”.
الذين ركبوا عتلة الحلم، بدؤوا يستفيقون من وهمهم، تيقنوا بأن الإنسانية التي تصورها العدسات الوامضة وتنقلها عبر الأثير الشاشات ثلاثية الأبعاد، هي زيف سافر، الإنسانية ليست زهوراً وقبلات ودموع مواربة الملح، ليست وجبات غنية بالسعرات الحرارية وألبسة تحمل طبعات عالمية المنشأ.
لا أنفي تعاطف البعض من العامة، لكنني أعرّي زيف الخطابات الرنانة، أسقط تحت أقدامي أقنعة ادعاءات الحكومات السامية.
في الرحلة الطويلة بحثاً عن أم رؤوم بديلة، أكثر أماناً، أكبر حناناً، الحقائق صادمة وأكبر ألف مرة من الحلم الوهم، كل منا يحتفظ بالكثير الكثير، لكنها العزة التي أصابت مقتلنا، أنا أول المتوارين من وجه مرآتي، أطوي صفحة خيبتي، أتوسدها وأحلم بأن الغد أفضل.
(م. ق) السوري هرب وعائلته من ويلات حرب البلاد بحثاً عن ملاذ، أبت إنسانيته أن يترك قطته “زيتونة” تموت جوعاً، حملها كفرد من أفراد عائلته، بينهم وبينها ذكريات جميلة، تعرفت “زيتونة” خلال الرحلة إلى معالم اسطنبول التاريخية، وعبرت البحر لتلتقي بأحفاد زوربا الأفذاذ، ثم تدلف مع الفاتحين بلاد الأحلام والعجائب ـــ الاتحاد الأوربي ـــ تعلمت كيف توارب حراس الحدود، تعرفت إلى وجوه أخرى، أفغانية، صومالية، وعرب من جميع الدول أبرزوا جوازات سفر زرقاء، قالوا إن الحرب هجرتهم من سوريتهم، وما أكثرها القصص وحكايات الدموع.
تعرف القطة “زيتونة” أن سوريتها وهي تدمّر بحرب بربرية شعواء، تدرّ لبن الحياة لكل أبناء العالم.
في الجمهورية الألمانية الاتحادية كان الاستقبال مهيباً، لكنها سلطة القانون التي لا سلطة تعلو عليها، حين ألقت القبض على “زيتونة” التي دخلت البلاد بشكل غير شرعي، وهنا لا بد من فراق حتمي، وخصوصاً أن (م. ق) ليس سوى ضيف أتى البلاد دون دعوة.
جلّ ما استطاع فعله أن ينظر في عيون زوجته الدامعة وهي ترقب عن كثب “زيتونة” التي أودعت في قفص خاص في سيارة البوليس.
لكل بلاد دين وشرائع، وها هو (م. ق) وعائلته ينضمون إلى قوافل تجمعات اللاجئين الراضين بما قسم لهم، بالطبع كما أطلق أحدهم على كتابه اسم “الحياة أفضل من الجنة” نعم لعلها الحقيقة التي تجلّت بعد عدة شهور ونيف، حين وصلت سيارة دائرة الهجرة إلى مقر إقامة (م. ق) وعائلته المؤقتة، وقد أنزلوا من العربة قفصاً صغيراً على هيئة بيت جميل مزركش، ليتولى الحديث المترجم الذي رافق سيارة البوليس قائلاً: يسر حكومة الجمهورية الألمانية الاتحادية أن تعلمكم بأن قطتكم “زيتونة” قد حصلت على الجنسية الألمانية وأنها اجتازت كل فحوصها الطبية بنجاح تام، كما يسرنا الآن أن نقدم لكم جواز سفرها الذي يخولها دخول كل دول الاتحاد الأوربي وبطاقة ضمانها الصحي، ولحسن الحظ أنها حصلت على الكثير من الهدايا والألعاب من دائرة الهجرة خلال إقامتها هناك.
إن قلت لكم إن الفرحة ليست غامرة، فأنا بالطبع أكذب، ليس لشيء بل فرحتي لا توصف، وأنا أرى أول قطة سورية تحصل على الجنسية الألمانية، لكل فرح دموع خاصة به، كذلك فرحة (م. ق) وعائلته بعودة “زيتونة” إلى كنف العائلة، لكن غصة ضلت طريقها في حنجرته، لاكها ابتلاعاً بمرارة، حتى لا يفسد فرحة العائلة: متى نحصل وعائلتي على الإقامة أسوة “بزيتونة”؟!.