ثقافة

ظواهر في الفن والغناء

عماد الدين إبراهيم
إن المتابع لما يُعرض على الكثير من القنوات الفضائية العربية، وخاصة تلك الغنائية منها، يلفت نظره أن هذه المحطات تملأ جزءاً كبيراً من وقتها بما يطلقون عليه (حوارات فنية)، والسمة الغالبة على تلك الحوارات: اللغو، والثرثرة، والهذر، وكم من الفضائح والمهاترات، والقليل جداً من المعلومات التي تهم وتفيد المشاهدين، وتتم تلك الحوارات في استوديوهات ضخمة، وديكورات فخمة، وبمشاركة فرقة موسيقية، وراقصين أحياناً، وجمهور من الحاضرين، وتسمع من ضيوف هذه البرامج من الأفكار والآراء و(الحِكَم والدُّرر) ما يجعلك تتعوّذ بربّ الفلق من شرّ ما خلق!.
في إحدى الأمسيات تابعت حواراً فنياً على إحدى هذه القنوات مع فنانة تُعتبر من الصف الرابع، وعلى أكبر تقدير من الصف الثالث من المغنيات، لكنها– والحق يُقال– أجادت وأفاضت، وصالت وجالت، وهي تتحدث عن انحدار الأغنية العربية، وتدنّي مستواها، واعتماد أغلب المغنيات- مغنيات الموجة الأخيرة– على الإثارة والتأوّه والتأوّد في أدائهن، ما يثير لدى المشاهدين شيئاً آخر غير سماع الغناء، وأكدت حضرتها على ضرورة الارتقاء بالأغنية والنهوض بها، وأخذت تُدلي بآرائها وأحكامها، وتُقيّم وتُصنّف، وكأنها أم كلثوم في حكمتها باختيار الألحان والكلام، أو نجاة الصغيرة بدفء الصوت، أو وردة الجزائرية بالاتزان والاحترام، أو سعاد محمد بمساحاتها الصوتية وقدراتها، غير مدركة أنها– هي نفسها– مظهر من مظاهر انحطاط الغناء، وأن نصيبها من جمال الشكل والصوت والحضور فقير جداً جداً، عندها تذكرت المثل القائل: (فاقد الشيء لا يُعطيه)، وأضفت إليه جملة رأيت أنها ضرورية جداً، وتعبّر عن واقع الحال، فأصبح المثل على النحو التالي: ( فاقد الشيء لا يُعطيه، لكنه بارع في التنظير فيه).
استمر الحوار مع تلك الفنانة (المبدعة) بين أخذ وردّ، وسؤال وجواب، وقهقهة وصهصهة، بمناسبة وبغير مناسبة، والأنكى من كل ذلك أن الجمهور المأجور– أي المدفوع له الأجر ليحضر في الاستوديو– يضحك لأية نكتة سخيفة تلقيها سيدة الحوار، ويهمهم ويصفّر، وبعضه يصرخ إذا ما شدخت المغنية فضاء الاستوديو بصوتها النشاز، وكأنه يستمع لمغنية ابن الرومي الشاعر العربي المعروف التي قال فيها:
يا خليليّ تيّمتني وحيد   ففؤادي بها معنّى عميدُ
غادة زانها من الغصن قَدّ      ومن الظبـــي مقلتــــــــــان وجيدُ
تتغنّى كأنهــــــــــا لا تُغنّــــــــــــــــــــــــــــــــي               من ســــــــــــــكون الأوصــــال وهي تُجيدُ
(معبد) في الغناء و(ابن سُرَيج)       وهي في الضرب (زلزل) و(عقيدُ)
قد مللنا ستر شيء مليح             نشـــــــــــــــتـهيه، فهل له تجريدُ؟.
يبدو أن مغنيات الموجة الأخيرة تركن كل مواصفات المغنية (وحيد) في الغناء والعزف والجمال والهدوء، وأخذن ما تمنّاه ابن الرومي في البيت الأخير.
أما أعضاء الفرقة الموسيقية، فإن مظاهر السرور والفرح والحبور بادية على وجوههم جرّاء مرافقتهم لذلك الأداء (المبدع)، وبما أن الحال أصبح على هذا المنوال، فليس لنا إلا أن نستعير من النبي أيوب الصبر حتى نبدّد عن أرواحنا الهمّ والقهر والكدر، ولسان حالنا يقول:
إذا حُرِمَ المرء الحياءَ فإنّه     بكل قبيح كان فيه جديرُ.