ثقافة

أنزور يكشف أوراق ما يسمونه براية الدولة الإسلامية

ليس بغريب أن يقدم المخرج العالمي نجدت أنزور الذي تبنى قضية الإرهاب في أعماله التلفزيونية والسينمائية فيلم “فانية وتتبدد” الموجّه إلى العالم بأسره، يعرّي فيه الفكر الظلامي تحت راية ما يسمونه”بالدولة الإسلامية” وقد تمكّن من الغوص في السراديب المظلمة والكهوف والأنفاق، وتعمق بأسرار اللون الأسود الذي يمتص دماء الأبرياء.
لم يعتمد أنزور كغيره من المخرجين العالميين على الإبهار البصري وفنّ الغرافيك وتقطيع الصورة والانتقالات المشهدية السريعة، إذ مضى السرد السينمائي بواقعية مدهشة وبفنية مباشرة بالاعتماد على أداء الممثل في التعبير عن الشخصية التي يؤديها والمعبّرة عن انتمائها، وعلى الصورة من خلال تناغم واضح بين السيناريو الذي كتبته ديانا كمال الدين وبين المشهدية البصرية التي وصّفت الحدث، بل تفوقت على السيناريو وكانت داعمة له، ولم يوّظف المؤثرات الفنية للتأثير على المتلقي، وإنما لتخدم الحدث، لاسيما في المشاهد المحمّلة بالدلالية والرمزية.
يدور المحور الأساسي للفيلم حول فضح الأساليب التي تتبعها داعش من مداخل مختلفة، وتوقف عند مشاهد مفصلية عبّرت عن حمولات سياسية واجتماعية تتبعها جماعة داعش بقيادة أميرهم “أبو الوليد” الذي جسد دوره بحرفية مطلقة الفنان فايز قزق، وقد اعتمد أنزور على المقارنة بين طرفين، من يتمثل المبادئ الإسلامية الصحيحة من خلال شخصية ثريا “أم نور” التي أدت دورها الفنانة رنا شميس، ومن خلال شخصية الشيخة “أم ياسين” الفنانة هناء نصور التي تتبنى أفكار الفكر الظلامي وتنشر مبادئهم، مشركاً المتلقي بالتحليل الديني لآيات القرآن الكريم التي اتكأ عليها أنزور مع الأحاديث النبوية.
الأمر اللافت أيضاً أن المرأة حاضرة بواقعية في كل المواضع لأنها مسؤولة عن تربية الأجيال القادمة على الفكر الصحيح، وبرمزية في بعض المشاهد، فالطفلة نور التي يتزوجها الأمير “أبو الوليد” بالقوة ويريد اغتصابها هي رمز لسورية التي دخلت قوات داعش إلى أماكن من جغرافيتها ولم تستطع النيل من وحدتها الوطنية، وثريا أم نور هي رمز لسورية بأكملها التي تحمي أبناءَها من القتل والاغتصاب والتشريد والضياع، حضور المرأة يتداخل بشكل واضح مع ظهور الأطفال وطالبات المدرسة الصغيرات، لأنهم جميعاً يمثلون الجيل الصاعد الذي سيساهم في بناء سورية ومتابعة المسيرة.

كتيبة النساء
وقد فضح أنزور مفهوم الدواعش للمرأة التي كرّمها الدين الإسلامي بينما تحوّلت في سوق السبايا إلى سلعة يتم تبادلها بين الرجال، والأمر الأكثر قسوة كان في القسم الثاني من الفيلم حينما تنتقل المرأة إلى معتقل النساء، وفضح أساليبهم الوحشية في تعذيب النساء واغتصابهن من قبل عدة مجاهدين، وإظهار الصورة القبيحة للسجانة الداعشية “أم حسين” في الإساءة إلى المرأة وإخراج شحنات الحقد من داخلها لإرضاء الأمير، وبدت جرأة أنزور في كشف النساء شبه العاريات وتصوير أساليب التعذيب وتجسيد صرخاتهن، وتبلغ المشاهد ذروتها حينما يتم التصوير من أعلى الزنزانة التي تمدد فيها طفلة عمرها تسع سنوات اعتدى عليها الأمير، ومن ثم عدد من رجاله ثم يتركونها تنزف حتى الموت، مقابل القسوة والوحشية يعود أنزور إلى هذه المشاهد بعد تحرير البلدة لتخرج النساء من المعتقل وتضم ثريا ابنتها نور في ثوبها الأبيض دلالة إلى انتصار سورية، وموت أم حسين إيماءة إلى فشل داعش على أرض سورية.

علمانية سورية
تطرق أنزور إلى العمليات الوحشية التي يتبناها رجال داعش بإعدام الأبرياء لأنهم يدافعون عن علمانية سورية وعن حضارتها وفكرها التحرري، كما في إعدام أستاذ المدرسة نضال على مرأى من أهالي البلدة ليكون عبرة لكل الناس، ومن هذا المشهد دخل أنزور إلى سلسلة من المشاهد التي تصور حرق كتب الثقافة والتاريخ والأدب إيماءة إلى ماحدث للأماكن التاريخية والأوابد الأثرية، ثم تناول بجرأة قضية تكفير المسيحيين من خلال مشاحنة بين طالبات المدرسة وطالبة مسيحية تضع الصليب، ليتعمق أكثر بالمضايقات التي تعرض لها المسيحيون من قبل داعش في المناطق التي سيطروا عليها وإجبارهم على اعتناق الإسلام أو دفع الجزية، فيضطر إلياس إلى إعلان إسلامه الصوري ليحمي عائلته في مشهد مضحك “أجبرك أحد على اعتناق الإسلام”، ليتابع أنزور في القسم الثاني من الفيلم تجسيد الإخاء الديني الذي تعيشه سورية والتعايش السليم من خلال مشهد الصلاة في منزل ريتا التي تصلي للصليب مع أمها، وبجانبها ثريا التي لجأت إلى منزلهم لتتوضأ وتصلي صلاة الظهر، والمشهد الأكثر دلالة على اللحمة الوطنية كان تعاون إلياس مع (أبو بشير) المسلم في عملية إنقاذ نور.

العمليات الانتحارية
حلل أنزور الفكر الضلالي لقتل النفس بغير حق لمبايعة الأمير وأشار إلى الإرهابيين القادمين من مختلف دول العالم لتنفيذ العمليات الإرهابية التي يسمونها بمفهومهم عمليات استشهادية وهي لاتمت إلى الشهادة بصلة، وبيّن أنزور أن الدول التي تستقبل اللاجئين بذريعة حقوق الإنسان مثل ألمانيا هي التي ترسل الإرهابيين إلى سورية، بدا هذا واضحاً في المشهد الذي جمع بين ثريا والشاب الألماني الذي سينفذ العملية الانتحارية.

العودة إلى الأم سورية
الورقة الرابحة الأخيرة التي اشتغل عليها أنزور في القسم الأخير من الفيلم هي المصالحة مع الذات وعودة بعض المنضمين إلى داعش إلى سورية الأم بعد التضليل الفكري باعتقادهم أنهم اشتروا دينهم وربحوا آخرتهم وسيحظون بحوريات الجنة، بدا هذا واضحاً بعودة”أبو دوجاني” الذي جسد دوره مجد فضة ونجح في إظهار مستويات إنسانية مختلفة في شخصيته، لاسيما في علاقته مع ثريا التي يعدها بمكانة والدته، وبمحاولته إنقاذ نور من الأمير بالتعاون مع أخيها مازن الذي يخدم في الجيش العربي السوري، وبإدخال جبهة النصرة بالهجوم على داعش للانتقام لزعيمهم في الوقت الذي يدخل فيه الجيش العربي السوري لتحرير البلدة ورفع العلم السوري ليرفرف في سمائها.

دعم داعش وتمويلها
اختزل أنزور جبن قادة داعش وتخليهم عن أعوانهم وعدم قدرتهم على المواجهة في المشهد الأخير الذي يتمكن فيه أميرهم (أبو الوليد)من التسلل من أحد الأنفاق، متنكراً بزي امرأة لنراه في المشهد الأخير يهرب وحيداً في الظلمة وتتطاير من حوله أوراق داعش السوداء ذات اللونين الأسود والأبيض إيماءة إلى الشعارات الفارغة التي يؤمنون بها ويتخلون عنها للنجاة بأنفسهم، وبرأيي تقصد أنزور هذه النهاية لتكون واقعية بدلالة رمزية إلى استمرار داعش وتلقيها الدعم من الدول الغربية ودول آل سعود، ووجود جوازات السفر المزوّرة يعني استقبال قادة داعش في دول كثيرة، وتبقى سورية الدولة المناضلة ضد الإرهاب.

ملده شويكاني