ثقافة

“العاشق”.. بنفسجة عبد اللطيف عبد الحميد

عبير عطوة
على بابكَ الفضيّ.. أقف
بدهشةِ طفلة عقَدتْ على جديلتِها.. زوجَي حمام..
غافَلَتْ أمّها، أفلتَتْ كفَّها، وجَرَتْ خلف جناحي فراشةٍ يعابثان الهواء، ينثران في عينيها غبارَهما الذهبي.
بِحَيْرَةِ وقلقِ عاشقةٍ من زنبقٍ، تصلّي وتبتهِل أن خلف ذاك الباب رجلها المنتَظَر.
يخفِقُ قلبي، ضرباتُه الآن أشَدّ ارتفاعاً وجنوناً من “قَدَريةِ” بيتهوفن..
ألتقط شيئاً من الشهيق، أدفع الباب بأصابع مرتعشةٍ وزفيرٍ متقطّع.
أدخل ذاك الفردوس، كقديسةٍ تبحث عن محرابها..
شاشةٌ بيضاء تتسعُ بما يكفي لعبور خيولي وسماء الأمنيات، مقاعد مخمليةٌ حمراء، سكونٌ يعلو، يواري وشوشاتٍ وهمساتٍ متفرّقة.
تخفتُ الأضواءُ تدريجياً، تسقط العتمة على أجسادنا كطائرٍ ليليّ عثر على عشه، لتشتعل تلك الشاشةُ على اتساعها بالحياة، حياة أرواحٍ ستروي لنا عمّا قليل حكايتها، نحن الجالسين كأوثانٍ حيّة متحمسة، نحن المفتونين بغوايتنا الكبرى “السينما”..
أراكَ.. تعبرُ بين المقاعد بابتسامتكَ الخضراء الفتيّة، تصعد تارةً تلك المنصة، تدخل الشاشة، تخرج منها، تجلس جواري بقبعتك القشّ تلك، لتشهد معي حكايتك، هامساً بدعابتك المحببة: “أنا العاشق”.
ساعتان من السّحر الزُلال تمضيان، ونحن نمضي معك، نستغرق في كل تلك التفاصيل، تفاصيل لعبتك السحرية البريئة المُتقَنَة، بين كاميرا مترعة بجمال روحك، سيناريو كقصيدةٍ رقيقةٍ عذبة تجعل من السينما مَجازَ حياة توازي وتليق بإنسانيتنا.
كل تلك الشخوص تهجسُ بقلقها الوجودي، بعذاباتها، بانكساراتها، بأحلامها، بانتصار نشيد الحياة فيها تجعلني أبحث عن “العاشق”، فلا أرى إلاك، أنت “العاشق” لها ولكلّ ما تفيضُ به هذه الأرض من حبّ وخير وجمال.
ها أنتَ تمشي الآن هناك.. نحو المشهد الأخير في حكايتك، بوجهك الطيب الجميل، متهالكاً تحت عبء السنين والذاكرة، تكاد تهوي فترفعك روحك الزرقاء كأفق، كما سنديانة تُطِلّ من عليائها على السهول الخصبة الوادعة، تهتزّ أغصانها تحت ارتعاشات الندى..
كما إكليل من نور هبط فجراً من سماوات الحلم، فغطى الذرا، وتوسلات البسطاء المستغرقين في خدر النعاس.
تحدّق الآن في المدى.. فينا.. بعينين دافئتين، حانيتين
دفء هذه الأرض بكل ما فيها من حزن وفرح.. عميقتين.. عميقتين كما البحر.. وكصوفي في معبدٍ يتأمل معبوده اللامرئي، تنادي بأعلى صوتك ترنيمة خالدة في أرواحنا فتحملها الريح في كل الجهات: “أمّة عربية واحدة..”.
يردّ الصدى: “ذاتُ رسالة خالدة، واحد واحد واحد.. الشعب السوري واحد”..أرتجفُ في حضرة هذه الكلمات.. أبكي.. ويبكي كل من معي.. وياسمين ينتظرني على الأرصفة..
أيها الشاعر الفينيقيّ.. يا ابن البحر الممتدّ بين قلبي وعينيك، أكانت تلك وصيتك؟ أم هي نبوءتك؟..
فلسطينُ.. يا لهذا الاسم الشهي على مذبح أرواحنا.. ما الذي حدا بك أن تردّده بشموخٍ وعشقٍ مُتّقد فغدا كنارٍ مقدّسة تزرعها على قاسيون؟..
هل كنتَ عاشقاً كنعانياً أكثر مما أشتهي.. كي أبكي بين أصابعك؟ تحت حِبْرِ روحك؟..
أخرج بدمع العين.. بنشوة الروح.. إلى دمشق.. تاركة سينما “الكندي”..
أفتح ذراعيّ أنا العاشقة مثلك.. لِلَيلِ دمشقَ ولريحٍ باردةٍ تشعلُ الشوارع الفارغة بالحنين.. يرافقني ظِلّك..صوتُك..عيناك.. فتخرج من صدري كلمات كنت كتبتُها ذات حين..
“صديقانِ/نلهو تحتَ الشمس بالكلمات/طفلانِ.. كأنّا طفلان/نُبدّدُ.. في ساعاتِ/الظهيرةِ/سكونَ الطرُقات../لن نرسم ظِلّينِ/على الشجر/لن نتركَ ذاكَ البحر.. فأيقظيني أمّي/عند الفجر/ وأعدّيني.. خُبزاً للعصافير/فخيولُ البحرِ تنتظرُني”.