ثقافة

“نـائـل عرنـوس” تـرك الـشـعر حـافـي الـقـدميـن!

حين يسد العاذلون أبواب الوصل، ويقع العاشق ومعشوقه قاب قوسين أو أدنى من عين الشبهة وحرمة التأويل، لا بد للشعر أن ينتفض، يقول مقولته، يشرع باب القصيدة على مصراعيه، لتصير حماماً زاجلاً يحمل المعنى، ويجلي غبش “التصاوير” التي عاثها ضمير “سين” المستتر في صفحات الغياب.
يخبركم صاحب قوله: “القصةُ كاملة/ تكمن/ في الأنينِ المتسربِ/ من حروفي/ في هذا العطرِ”.
الشاعر نائل عرنوس يوُقع مجموعته الجديدة “على ضِفة التعب” الصادرة عن دار التكوين للطباعة والنشر والتوزيع الدمشقية 2015.
لعلّ قارئه الأول وهو ينزع الصفحة الأولى من قلبه، يتوقف أول السطر ولسان حاله يهجس السؤال البديهي، أين الإهداء؟.
فالقارئ العليم يقرأ شاعره من خلال منارتين: الأولى العتبة العليا ـــ المعنون ـــ والتي تشي بالحالة الكلية، والثانية من الإهداء الذي تكمن ظل طياته مفاتيح السر.
لعله الشعر الفقير يجثم فوق جبل النفائس والدرر الصافيات المعاني، بل أجزم بأنه نبع زلال، كلما نهلت منه زادك سقياً، يستجدي من يحرره من عبودية اللوازم.
ثمة عدم اتزان خطابي في علائق النصوص، وهي حالة الصدق التي عاشها الشاعر العاشق، حيث إنه لم ينمقها، بل جعلها متسقة مع أناه، بدا ذلك جلياً في المعنونين المتضادين، “أخرجي من جمري” و”أشرقي في أنحائي”، هذا الاضطراب شكّل حضوراً بهائياً لقصيدته ذات المفردة البكر والمتخففة بسهلها الممتنع، الذي برع بتسخير اليومي وتفصيلاته وإحالته إلى منحى غرائبي مبهر: “عندما تخترقين مسائي عنوةً/ أحضري معك/ كلّ الأشياءِ/ كي يكونَ مساءً/ استثنائياً/ أتعلّم فيه/ أبجديةَ/الحب/ وممارسةَ الجموحِ الهادر/ ونظريةَ/ أن تكوني فريسةً/ لوحشِ جوارحي المقيد/من سنين”.
لم يستطع الشاعر مواراة الحدية في القول، وبما أن نصوصه النثيرة أتت كرسائل للمعشوق، كان لزاماً ابتلاع هذا التوتر الذي بدا ملموساً محسوساً بوجه على السطح الظاهري للقصائد، “رغبة متوحشة، كان سيلاً من جنون، أوقات حبك طاغية، نهايتك في حياتي مستحيلة، أعاقر جنوني”.
لكن هذا لم يخفِ بالمطلق السحرية الناصعة التي تركت جرساً غنائياً متوهجاً في أذن القارئ، والذي ينم عن شعرية وضاءة ثرية الدلالات، حوّلها الشاعر من مفردة الحالي البكر إلى عالم إدهاشي: أبعد من الفجر/ لدرجة الغليان/ تحت خطّ القهر”.
بدعاً أقول: إن الشاعر وعبر تناوله المفردة الخام، في محاولة فاعلة لإعادة تطويعها من أجل هدف فني، أي تفكيك الواقع وإعادة تركيبة باستخدام العناصر ذاتها، من خلال إخضاع عمليتي التفكيك والتركيب إلى حيز من الطاقة الفاعلة، أي “طاقة ذاته”، فيما نسمي بين معترضتين “المخيلة” التي تماهت حيناً مع مقولة الأسطورة “ميثا”، وحيناً آخر مع الأمثولة، للمقاربة: لن أهرب/ كطفلٍ/ يهوى قطف الرمان والتين/، لكنه يخشى أن يطأه حصانُ الناطورِ/ في غياهبِ البساتين/ سأسلّمك عناني”.
وحين ولج مسار الأسطورة، كانت ملامسته ظاهرية دون الدخول إلى ثيماتها وعلائقها، وهو حال كل الشعراء العرب الذين تلطوا وراء مقولتها المباشرة، حيث يعتقد الكثيرون بأنها ستكون حاملاً لبعض نصوصهم، في حين أنها سلاح مكين لم يتم التعامل معها بدراية ماتعة، تفضي لأسلوبية شائقة تُسقط القارئ الظامئ في مضمراتها الملغزة: أَقسم فُرسانُ الطّاولة المستديرةْ/ المتربعين/ في أعماقِ حنيني/ على الوفاءِ”.
ثم يقول: أنت لعنةٌ إغريقيةٌ/ فارسها أنا/ وباسمي/ ستخاض حروب/ وسأُسجى/ عند
أهدابِك/ يوماً”.
الشاعر نائل عرنوس ومن خلال التوليفات التي اجترعها وأسلوبيته الرهيفة المتجلية في القصيدة، بوصفها تعنينا أولاً، فإن معماريتها بدت سلسة مرنة الأداء، زاد من بلوريتها الجدية والحدية، التي لازمت الشاعر حتى منتهى القول: اعلمي/ بأنني/ آخر القلاعِ/ التي في شغاف الروحِ/ ضمتك/ يا سيدتي/ الدمشقية”.
النمسا- طلال مرتضى