ثقافة

جمالية الرواية الألمانية بأقلام أدبائها

قليلة هي الأعمال التي تسكن أرواحنا بعد قراءتها، فثمة منها ما يتفتح في ذاكرتنا كلما نفضنا غبار الزمن عن رفوف مكتبة الروح، وهنا تتجلى القيمة الإبداعية لأي عمل أدبي، في أثره، في بصمة الكاتب، سواء أكان من الشرق أو الغرب، ولا يمكن لأحد أن ينفي التأثر بالرواية الأوروبية، ومنها الألمانية التي مرّت بأطوار عديدة، من التنوير إلى الرومانسية، والطبيعية، ثم الانطباعية، وتمتعت باهتمام كبير، وبلغت عصرها الذهبي مع “يوهان غوته”(1749-1832) الذي قدّم لروايته الشهيرة “آلام فرتر” الأديب طه حسين، وألمح فيها إلى أنه لا يجوز لشعب يحترم نفسه أن يتجاهل شاعراً وفيلسوفاً مثل غوته، أثّر بنبوغه الفني والفلسفي في الحياة العامة، والنفسية للعالم أشد التأثير.
لقد تميز الأدب الألماني كجنس أدبي  له خصائصه، بالتصاقه بالواقع الاجتماعي، إضافة إلى الجوانب الجمالية الأخرى التي تجعله مفهوماً، وبرز فيه أدباء كثيرون حصد أغلبهم جوائز نوبل على أعمالهم الروائية، مثل: “هاينريش مان، توماس مان، هرمان هسه، فرانتز كافكا، غونتر غراس،  هاينريش بول، ليسنغ، شليغل”، وآخرين.
تجلّى في أغلب تلك الأعمال التصوير الدقيق والفني لأسرار الحياة، والحب، والمجتمع، ورفع القناع عن مكنونات النفس البشرية وانفعالاتها أمام حاجات الجسد والروح، فإذا بالقارئ العربي يجد متنفساً للمشاعر والدوافع المكبوتة في الأدب الأجنبي لا يسع الكاتب العربي أن يعبّر عنها بالطريقة نفسها، وخصوصاً المسائل التي بلغت درجة كبيرة من التعقيد، والتي تتصل بالجسد والدين.
أهو الظمأ إلى العلم وإلى التعرف على كل شيء، أم لأن الرواية الألمانية نجحت؟ هاينريش مان، في رواية الملاك الأزرق، تميّز أسلوبه بواقعية صبغها بشيء من ألوان الطبيعة والرومانتيكية، وكان أسلوباً مليئاً بالطرافة التي كثيراً ما تتحول إلى نقد لاذع، وهو يظهر عيوب المجتمع الكبيرة والصغيرة، ويدعو من خلالها إلى حرية الفرد والمجتمع، ويصبو إلى العدالة الإنسانية، وتأصيل القيم الإنسانية، فرواية كهذه يفهمها القارئ العربي ويتفاعل معها عاطفياً، ويسقطها على ظروفه وأوضاع مجتمعه العربي الحديث، وما فيه من مشكلات اجتماعية وأخلاقية، أم هو الأنموذج الخلّاق والتلّقي المنتج، كما حدث مع رواية “آل بودنبروك” للكاتب توماس مان، وثلاثية نجيب محفوظ التي تنطوي على تشابه كبير معها، ومما ذكر أنّه  لم ينكر تأثره  بالرواية الألمانية المذكورة في ثلاثيته، وشكلها الأدبي، بل اعتبره أمراً عادياً، وقال: أعتقد أن الفن شجرة كبيرة نامية، كما أضاف أنّه في هذه الحالة من التشابه قد وظّف قدوته الأجنبي لصالح عمله الإبداعي، فالرواية تعرض أجيالاً عديدة متوالية، وقد أعجبه الشكل الروائي.
أما الكاتب هرمان هسه (1877-1966)، حامل بذور التمرد على أشياء كثيرة في هذه الحياة، كأنّه في جانب، وكأن الآخرين في جانب آخر، فقد عالج في رواياته قضايا العزلة، والتفتت، والصراع، والسطحية، وسعى إلى العلم والخير والجمال في كل شيء، من أعماله: “لعبة الكرات الزجاجية”، و”دميان”.
ولا يفوتنا الأديب المتهم (فرانتز كافكا)، والمثير للجدل، كما سلفه (برخت)، فقد شبّهه الأديب طه حسين بالشاعر والفيلسوف العربي أبي العلاء المعري، لشدة تشاؤمه وشكه العميق بكل شيء، هو الكاتب الذي عاش في بؤس ويأس ومرض، فكانت مواقفه من الحياة مشابهة للفيلسوف العربي الكبير المعري، رغم اختلاف الزمان والمكان والبيئة والثقافة والوراثة، فأَجْمَلَ الأديب طه حسين هذا التشابه، في رفض كافكا، (إجباره على الحياة دون أن يريدها، وعلى الموت دون أن يريده)، في بيت أبي العلاء المعري الشهير:
هذا ما جناه علّي أبي         وما جنيت على أحد
من أعمال كافكا: المسخ، القضية، القصر، فالأدب شجرة وارفة الظل، جذورها في تراب واحد، وأوراقها منتشرة في أغصان هذا الكون الفسيح، وأغلب الأدباء متشككون حول هذه الحياة المنعكسة على السطح، لذلك يغوصون في الأعماق، والسؤال هنا: أليس هناك تضاد بين الحياة والفكر؟.. يبدو أنه ستظل الحاجة الثقافية الحقيقية تبحث لنفسها عن قنوات بديلة، من خلال الأعمال المترجمة، وكأن المجتمع العربي الذي سحره بريق الحضارة الأوروبية ينسى أن معظم أدباء الغرب مازالوا مفتونين بسحر الشرق، وأساطيره، وخيال أدبائه!.

هالا مرعي